خلود الفلاح
"إذ أن الرغبة في القراءة، مثل جميع الأشواق الأخرى التي تحير أرواحنا التعيسة، قادرة على التحليل" "فرجينيا وولف". "هناك كتب تكون فيها الحواشي أو التعليقات المدونة من قارئ ما على الحوافي شيقة أكثر من النص، العالم هو أحد هذه الكتب" "جورج سانتايانا".
الكتاب صديقي أبحث عنه قبل ذهابى للنوم، وأنا أحزم حقائبي للسفر، في لحظة ملل أجده بين رفوف المكتبة. إن النظر إلى الكتاب كإنسان وإلى العالم ككتاب يسهم في إضافة تسميات وأوصاف مختلفة لمتعة القراءة. فالحواشي والتعليقات المدونة في ورقات الكتاب تحكى بعد مضى زمن حكاياتنا معها، عن تواريخ أصبحت جزءا من تجاربنا، عن حالتنا النفسية لحظة كتابتها.
عن الكتابة والعلاقة الأولى بالكتاب كانت هذه الردود من قبل بعض الكتاب والمبدعين العرب:
الكتابة مثل الشهيق والزفير
الروائي الليبي إبراهيم الفقيه يقول: سؤال "لماذا تكتب" سؤال متداول ويطرح باستمرار على الأدباء وهناك كتب ربما تناولت آراء الكتُاب حول هذا الموضوع كما انه سؤال لا يستنفد أغراضه فهو يختلف ربما من كاتب إلى كاتب وقد رأينا كيف تنوعت آراء الكتاب، التي يجب أن تتنوع، من كاتب لكاتب ومن جيل إلى جيل ومن مكان إلى آخر، فقد تجدين في الغرب من يقول إنه يكتب من أجل المال لأن هذه هي الوسيلة التي يتقنها لتحقيق الكسب وبالتالي يكفل له عيشة هانئة ودخلا وافرا، ولكنني طبعا لا أتصور أن يكون هذا رد كاتب من عالمنا العربي ومن عالمنا الثالث كله إذا كان الأمر يتصل بالكتابة الإبداعية فقليلون هم الكتُاب الذين يتفرغون لمثل هذا النوع من الكتابة أو يكسبون أي مستوى من العيش منها قبل الحديث عن العيش الرغد، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فانه حتى لو صدق أن الكتابة مورد للرزق فاعتقد أن وضعها في مثل هذا الموضع يجردها من نبلها ومن شرف انتمائها لأصحاب الرسالات من أدباء رسخوا في الوجدان بنضالهم وتضحياتهم، إنها رسالة قبل أن تكون مصدرا للمال.
عن نفسى أقول إن السؤال يفترض أن هناك قصدية في الكتابة أو أنها مهنة يختارها الكاتب كما هو الحال مع الحرف الأخرى.
بالنسبة إليّ فانا اكتب لأنني لا املك إلا ان اكتب كما لابد للطائر أن ينشد أغاريده ولابد له مثل الديك أن يقف عند حافة الليل يصيح مناديا نور الشمس. وهذا كلام نقوله من إملاءات الوعي ولكن هناك في مناطق اللاوعي لا تفسير للكتابة لأنها أشبه بعمل طبيعي، نقوم به لأنه ضروري للحياة تماما مثل الشهيق والزفير.
طبعا هناك من يقول أن كتابا كتبوا ثم توقفوا على الكتابة وأرد على ذلك انه أمر استثنائي فالكاتب الذي ولد كاتبا لا يملك إلا ان يبقى كاتبا حتى آخر العمر وإذا توقف عن الكتابة فهو أمر قسري أجبر عليه. ربما لإحساسه بالخطر أو الخوف والرعب نتيجة غياب الحرية وأساليب القمع التي تمارس أحيانا ضد الكتُاب. ولكن من يسلبه حق التعبير فكمن سلبه حق الحياة فهو إذن يعيش ولا يعيش هذا إذا كان الكاتب كاتبا بحق وصدق وصاحب موهبة حقيقية.
هناك شى آخر طبعا وهو انه ليس كل من كتب كاتب وليس كل من نطلق عليهم كتُابا هم حقا كتُاب وهنا ندخل في موضوع آخر خارج نطاق الكتابة ولا يدخل في إطار الرد على هذا السؤال.
بيت لا تدخله الكتب قاصر يحتاج إلى وصاية
الشاعرة السورية فرات أسبر تقول: السؤال الصعب، قد يكون علاجا لبعض الناس، وأنا منهم. الكتابة مخزون عميق في داخل الإنسان تغذيه وترفده التجربة والثقافة، والحياة بما فيها من متناقضات. لقد رأيت فيها نفسي بمعنى أنها أنقذتني من الضياع النفسي والروحي.
الحياة تمنحنا الكثير من الألم، وقليل من الفرح، وكان هذا الفرح، هو علاقتي، بالنصوص التي اكتبها. فيها فصول حياتي المتعاقبة، دورات تكبر وتتساقط أمامي، إضافة إلى الغربة التي عشتها بوجهيها الداخلي والخارجي، منحتني دفقا في الكتابة أرى فيه العالم بكل صوره.
الكتاب جوهرة ثمينة، كنز كبير، تربيت في بيت مليء بالكتب، وكانت علاقتي بها في مرحلة أولى لا يتعدى ترتيبها وتنظيفها ومسح الغبار الذي يتراكم فوقها. مازلت اذكر كيف كنت اعتنى بكتب ماركس ولينين وأرتبها في صف خاص بها، والحقيقة لم تكن تجذبني أفكارهم بل كانت صورهم على الأغلفة هي التي تلفت انتباهي فمن لحية ماركس إلى لينين ولم تكن علاقتي بهم علاقة شيوعية، إذ لم أكن في العمر الذي يسمح بأن افهم رأس المال والاقتصاد.
تغيرت الأحوال ورأيت نفسي أنتقل نقلة واسعة لإعادة صياغة وترتيب هذه الرؤية وبدأت القراءة وتشكيل عالم خاص بي. وفي الطريق إلى هذه البلاد البعيدة "نيوزيلاند" حملت معي ما كان خير رفيق في هذه الدروب الطويلة، فن الشعر لهوراس، والله والإنسان والقرآن الكريم وكتب أخرى أحبها كثيرا وحقيقة اشعر بان البيت الذي لا تدخله الكتب بيت قاصر، يحتاج إلى وصاية. هي جواهر ثمينة نتوارثها من البشر ولا تموت خذي مثلا ما ذكرت من فن ا لشعر لهوراس هو غير فن الشعر لأرسطو فيه من النصائح والعمق تكفي أي شاعر لألف عام قادمة. أليس هذا كنزا لا يقدر بثمن.
أذكر أول رواية قرأتها كانت السأم لألبرتو مورافيا كانت مليئة بالمشاعر والأحاسيس التي تناسب العمر والزمن الذي كنت به حينها، اليوم لو سألتني عنها، لا يمكن أن أقراها أو أعود إليها. ومن الصعب الإجابة على الشق الثاني من السؤال وهو "الكتاب الذي أثّر فيّ" أذكر رواية ليلة القدر للكتاب الجزائري الطاهر بن جلون هذه الرواية تركت بى أثرا عميقا واذكر كيف شجعت صديقاتي على قراءتها، ومن جميل الذكر أنها لم تكن متوفرة في المكتبات السورية أبان صدورها، وقمن بحملة بحث عنها، ولكن جميع الدور تعتقد أن المقصود هو ليلة القدر الليلة العظيمة من أيام رمضان.
الكتب مثل البراكين تهز ومهما مر الزمن تبقى مشعة، مضيئة بأحداث ووقفات لا يمكن تجاهلها وتحضر إلى الذاكرة سريعا. نعم يا خلود، كما قلت لك الكتاب سيبقى ربما ستكون زوبعة تمر، ولكن الحقيقة الواقعة هي في إعادة وطبع آلاف النسخ من الكتب المهمة أمام الباحثين والدارسين هل تعتقدين مثلا أن دواوين الشعراء الكبار أمثال المتنبي وأبو تمام وغيرهم يمكن أن تقرأ طويلا على النت لا وألف لا..
العالم منصرف عن الرتابة
الشاعر الليبي عبد الوهاب قرينقو يقول: كإجابة سريعة وربما استعراضية لا تخلو من جرعة صدق أقول: لو أنني أعرف لماذا أكتب لتوقفت عن الكتابة! لكن عندما تكون إجابتي أكثر انتباهاً، أؤكد: بعد أكثر من عشرين عاماً من ممارستي للكتابة شعراً كانت أم نثراً أرى أنني أنتهي روحاً وجسداً إذا ما توقفت عن الكتابة مع إيماني الساطع الراسخ بأن المشتغل بالكتابة لابد وأن يأتى عليه يوم ليتوقف! وألا صار مجرد ماكينة شاحبة مملة لإنتاج النصوص! باختصار نكتب لأن لامناص لنا إلا أن نكتب.. وأشياء أخرى كيقين أو هاجس وربما وهم ينمو لدينا ويترسخ كل يومٍ أكثر بأن ما نكتبه له جدوى ما أو انه إضافة للتراث المعرفي الإنساني كما يقول أحد الأصدقاء!
ماذا يعنى لى الكتاب؟! الإجابة التقليدية تقول إنه صديق أو أنه خير جليس في الزمان، لكنه لمن يُكتب تحديداً هو المعين أو هو المنهل / الوسيلة أو الأداة التي تراكم في الكاتب معرفته بالعالم وبالذات وبالإنسان والظواهر وقراءته وتدبره فيها مسعى متواصل بالنزع إلى تطوير الذات المنتجة للنص.. لكم أحسد القراء العاديين الذين لا يشتغلون بالكتابة.. إنهم يقرأون لمجرد المتعة والرفقة السرية مع الخلق الذين يقرأون في أمكنة أخرى وفي أزمنة أخرى..
بمعنى أن الذي يكتب يقرأ ليكتب وشيئاً فشيئاً يقرأ دون أن تحقق له الصداقة مع الكتاب لا متعة ذهنية ولاغبطة كالتي تغمر القارئ العادي. أنا انتظر زمناً أتوقف فيه عن الكتابة نهائياً كي أتلذذ بالروايات والقصائد والأفكار!
لو تحدث ثورة في طرق طباعة الكتاب ونشره وتوزيعه سيكون له مستقبل وإن ظل الحال على ما هو عليه فلن يكون له مستقبل. لا بسبب النت ولكن لأن العالم دائماً ينصرف عن الرتابة، وفي الواقع أن هذا السؤال قديم مع تغيير كلمة النت إلى سينما وتليفزيون وقبلهما راديو، فعند ظهور كل هذه المستجدات في وسائل الثقافة والإعلام السمع بصرية كان السؤال يطرح، ومر الزمن دون أن يكون لهذه الوسائل كبير أثر في انصراف الناس عن الكتاب.. وبنظرة أكثر تفاؤلاً أرى أن النت لا علاقة له حقيقية بانحسار شيوع الكتاب فستمضى طفرة النت كما مضت مثيلاتها فنلاحظ أن العودة صارت واضحة للكتاب والإقبال عليه، ففي تقرير صدر مؤخراً عن الكتاب في اليابان على ما هي عليه من انتشار مذهل في الالكترونيات عموماً ومدى دخول النت في نسيج الحياة هناك.
الكتاب أجمل اختراع بشري
الروائي السوداني طارق الطيب يقول: الكتاب الأول الذي قرأته ككتاب أدبي- غير كتب المدرسة- كان في أواخر الستينيات وهو كتاب في مجلد من مكتبة والدي، كان يضم مجموعة من الروايات أذكر منها رواية: "شجرة اللبلاب" لمحمد عبد الحليم عبد الله ورواية "بئر الحرمان" لإحسان عبد القدوس وربما رواية أخرى ليوسف السباعي ونجيب محفوظ. كان اكتشافا رائعًا وشعورًا أعجز الآن عن وصفه، هذا الفخر بأنني أصبحت أشبه والدي وأقرأ كتب الكبار بأحجامها الضخمة. متعة أكبر من متعة محاولات التدخين السرية التي جرَّبتُها في الخامسة وتوقفت عنها في اليوم نفسه وحتى يومنا هذا. كانت الكتب ذات أغلفة ملونة ومزينة في الداخل برسومات لأحداثها وأشخاصها. كنت أتابع هذه الرسوم بعين بطيئة متأملة.
الكتاب كقارئ يعنى لي الكثير، لا أعلم كيف كانت ستكون الحياة دون كتاب ودون قراءة. إنه أجمل اختراع بشرى من وجهة نظري. وكما يقولون هنا بالألمانية في النمسا: "القراءة مغامرة في الرأس!"
ككاتب أرى أن كتابة الكتاب أعجب مسئولية يتحمَّلها الكاتب دون تكليف أو إجبار، كأن الكتابة غريزة!
الكتاب متن وما عداه هوامش
الشاعر العراقي عدنان الصائغ يقول: لماذا أكتبُ؟ سؤال قديم يتجدد بتجدد أسئلة الحياة نفسها، وعليه فهو يتخذ أشكالاً ومسالك شتى، لتأتى الإجابة متنوعةً أيضاً حسب وضع الكاتب وموضوعاته ومناخاته.
أحياناً أكتب كما لو إننى أتنفس أو أشهق أو أعوي.. وأحياناً أكتب كى أنفّس عما بصدرى ورأسى من براكين وهواجس.. وأحياناً أكتب كأنني أغنى لوحدى في غابة ساكنة.. وأحياناً أكتب باندفاع الموج والريح لكي أوصل ما أريد قوله للآخرين.. وأحياناً أكتب كأنني أهمس لا أريد لأحد أن يسمعني..
لماذا أكتبُ؟ أكتب من أجل قارئ ربما لا أراه ولا يراني.. أكتب من أجل أصدقاء طمرتهم الزنازين وسواتر الحروب أو ضاعوا في المنافي.. أكتب من أجل حبيبتي، من أجل وطني، من أجل عالمي، من أجلى أنا. أكتب كى أقضَّ مضاجع من ظلمونا وسرقوا خبزنا وهواءنا.. أكتب لكى أوقف نزيف الدم وانتشار القبح والجهل. أكتب في محاولة لأن أزيد مساحة الخضرة والموسيقى.
تتداخل ثلاث كتب في ذاكرتي الآن دفعة واحدة: قصة السندباد البحري، ديوان دعبل بن على الخزاعي، اللص الظريف أرسين لوبين.. جارتنا العانس قادتنى إلى السندباد البحرى ومنه إلى سحر ألف ليلة وليلة وكنوزها. ما سمعته عن خشبة الصلب التي كان يحملها دعبل مردداً قصائده المتحدية لسلطة الخلافة قادني إلى شعر الرفض. وصديق يعشق المغامرة قادنى إلى قصص آرسين لوبين. أتوقف عند دعبل، وأتذكر مقولته: "لى خمسون عاماً أحمل خشبتى على كتفي أبحث عمن يصلبنى عليها فما أجد من يفعل ذلك".
وأتذكر بيتيه:
"سأقضى ببيتٍ يحمد الناس أمره
ويكثر من أهل الرواية حامله
يموت رديء الشعر من قبل أهله
وجيده يبقى وإن مات قائله"