نبيل مصطفى مهدي
لقد تبدلت الحياة اليوم ولم يعد المرء مهما كان راجح العقل.. فهيماً أن يعرف كل شيء.. ويعلم كل شيء.. ويستوعب كل ما في هذه الحياة من الأمور..
إن الجهل ليس عيباً وبالذات عندما تكون أسبابه مبرره، وأن اعتقاد كل واحد أنه سيد العارفين حتى بأمور الحياة العادية يعتبر مرض لعين، مرض الإدعاء الكاذب، وهذا ما نعانيه أحياناً في مجتمعنا، نشاهد ونسمع عبر التلفاز كثيراً من المثقفين الكبار وبعضاً من العلماء ذوي الاختصاص والخبرة عندما يناقشون قضية معينة أو يتحدثون عنها فغالباً ما نسمعهم يقولون اعتقد...أظن...ربما.. . رغم طول باعهم في العلوم والفلسفة.
أما الجاهل المدعي فيقدم نظرياته دون أن يرق له جفن.. ويجزم بأن ما ينطق به هو الصواب كل الصواب.
صديقاً لي حدثني قائلاً: إنه كان ضيفاً على جماعة من الأصدقاء المثقفين والمحترمين في جلسة صفاء وكانت الجلسة حلوة وبعد أن تم الانتهاء من سرد النكت كالعادة في مثل هذه الحالات تشعب الحديث إلى السياسة.. وراح أحد الحاضرين يحلل الأمور بطريقة عجيبة وغريبة.. وقام آخر يناقضه.. واشتد الجدل بين الحاضرين إلى حد كبير "مع العلم أن لا أحد بينهم يعمل بمهنة السياسة أو يهتم بها" وانتهت الجلسة بتكذيب بعضهم البعض - مثقف وخريج جامعي يجزم بأن مهنة الصحافة و الإعلام مهنة سهلة.
من صياغة ونقل الأخبار إلى الإخراج الصحفي. فبحسب رأيه يمكن لابنته بنت الثالثة عشر سنة أن تصبح مراسلة صحفية لأي صحيفة في الداخل أو الخارج تشاهد الحديث ومن ثم تكتب وتقوم بنقله أو إرساله إلى الصحفية أو التليفزيون أو الإذاعة، وعندما قيل له نجرب قال ليست عندي وقت ولكني متأكد.
مريض يذهب إلى الطبيب فيشخص المرض ويصف له الدواء ولكن بعض الموجودين من أقرباء المريض لا يعجبهم التشخيص، فيستعينون بالجارة العجوز لتصف دواء آخر أشد فعالية في شفاء المريض أو في تقريبه من القبر.
فكما قلت لقد تبدلت الحياة ولم يعد المرء مهما كان راجح العقل فهيماً، عالماً بكل شيء.
السياسة.. فلنتركها إلى المشتغلين في السياسة إذ ليس من المستحسن أبداً أن يكون السياسي سمساراً لئلا يخلط بين المهنتين! فيسمسر بالسياسة!! وهذا عيب!! أو يسيس السمسرة!! وكلا العملين غير مرغوب فيهما لدى البعض، وما يقال عن السياسة يصلح على جميع نواحي الحياة الأخرى، لنترك الهندسة والنجارة والحدادة والبناء للمتخصصين في هذه الأمور وكذا بالنسبة للتخصصات والأعمال الأخرى، لكن قبل كل هذا.. لعل من أبغض الأمور أن نجزم، حين يكون المجال قابلاً للجدل... مع العلم أن أكبر عالم عندما يحدثك في أمر مهما كان واثقاً من صحته فإنه مع ذلك يقول لك "اعتقد.. ربما أو قد يكون" أما ذلك الجازم القاطع في حديثه.. فهو دون شك محتاج إلى علم كثيراً!! ولا يوجد في المجتمع كما تقول الأمثال فش فشي يعرف كل شيء وإنما يوجد مرض الإدعاء الكاذب أو كما يقول المثل المحلي ينطبق على الفش فشي الذي يعرف كل شيء اسم عبده العريف. ورحم الله امرءً عرف قدر نفسه.
والله من وراء القصد.