د. محمد سلمان العبودي
بين أفراح اليهود بمرور ستين عاما على قيام «دولة إسرائيل»، وبين مآتم العرب على زوال فلسطين من خارطة الإمبراطورية العربية الإسلامية الممتدة من أطراف الصين إلى شواطئ المحيط الأطلسي، يقف المرء حائرا بين تكذيب الواقع الذي لا مفر منه بأن إسرائيل ستبقى شئنا أم أبينا، أو تصديق التنبؤات التي راجت إعلاميا في الآونة الأخيرة بقرب زوال هذا الكيان.
الرأي الأول يعتمد على حقائق علمية ثابتة لا جدال فيها. والرأي الثاني يقوم على تنبؤات تشبه أحلام يقظة التلميذ الفاشل، والذي يمني نفسه بأن العديدين من العظماء الناجحين كانوا فاشلين دراسيا! ويبدو أن معظم سكان البلدان العربية والإسلامية قد تعودوا على انتظار وصول رزمة جاهزة من الفرج والنصر والتقدم والديمقراطية جاهزة تلقى عليهم من الغيب دون أن تحرك ساكنا كالمائدة التي أنزلها الرب من السماء على بني إسرائيل.
وسواء كان زوال إسرائيل حتميا لأسباب عديدة منطقية وتاريخية، أم أضغاث أحلام الضعفاء، إلا أن التجربة في حد ذاتها مسلية جدا. فاليهود عندما قدموا للمنطقة لم يكونوا يمثلون مليوناً من عدد سكان الأمة الإسلامية والدول العربية آنذاك.
واستطاعوا ببراعة لا مثيل لها التحول من شرذمة من العصابات الإرهابية الصغيرة المتخصصة القادمة من شتى بلدان دول أوروبا الشرقية والغربية، ليشكلوا شبه دولة ذات شبه سيادة تعدت حدودها التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1947 مناصفة مع أصحاب الأرض الأصليين.
وأصبحت تشاكس وتتصرف وكأنها صاحبة الأمر والنهي، ولم تعر جيرانها أي اعتبار ولا أي تقدير واستطاعت أن تلحق بهم الهزيمة تلو الأخرى وتشيع الفوضى في عقر دارهم وتفرض أمرها على تلك الإمبراطورية النائمة في سبات عميق التي استيقظت وقد سقطت حصونها العالية وحطمت بواباتها العتيدة. فبدأنا نبكي كما بكي عبد الله الصغير على زوال ملكه في الأندلس قبل أكثر من خمسة قرون ونسمع في آذاننا بيت أمه وهي ساخرة منه:
ابك مثل النساء ملكا مضاعا
لم تحافظ عليه مثل الرجال
وهذا السقوط المؤلم لم يشهد العرب سقوط مثيل له في تاريخهم سوى سقوط فلسطين في يد اليهود عام 1947. ومازلنا نتغنى بالأندلس منذ سقوطها قبل خمسمئة عام واعتقدنا وقتها أنها ستعود ولم تعد، ثم تعودنا مع الوقت على الاعتقاد بأنها لن تعود مطلقا.
واليوم نعيد نفس اسطوانة (حلم اليقظة العربي) بعودة فلسطين وربما لن تعود إلا في أشعار محمود درويش وسميح القاسم ما دمنا نعطي ولا نأخذ ونسلم ولا نستلم ونبيع ولا نشتري ونهدي ولا يهدى إلينا. والمصيبة الأكبر هي أننا نبيع ولا نجرؤ حتى على المطالبة بثمن البضاعة!
تضاعف اليوم عدد اليهود الذين كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة عام 47، ليصل إلى ما يقارب 7 ملايين نسمة في دويلة تقع على مرمى حجر من 300 مليون عربي. في واقع الأمر، لا تزول الدول بالتمني.
وكلما خطر ببالنا أمر سقوط دولة فلسطين ووجدنا أنفسنا عاجزين عن أخذ حقنا بأيدينا تحججنا بزوال إمبراطوريات التاريخ وعلى رأسها الإمبراطورية الرومانية والفارسية وغيرها ممن زالت في غمضة عين واستنتجنا حتمية زوال دولة إسرائيل بناء على أمثلة زوال الإمبراطوريات.
إسرائيل في صميمها ليست دولة وليست خارطة سياسية، وإنما شعب على شكل دولة أو شبه دولة، وهم يدركون هذه الحقيقة جيدا ولذا يطلقون على كيانهم: «مدينة إسرائيل». ونحن لم نستغل على مدى تلك العقود نقطة الضعف هذه، ولم نتنبه بأن تأثيرها على الساحة الدولية ضعيف إلى درجة كبيرة جدا.
فالأوراق الرابحة وأوراق الضغط التي بين يدينا تفوقها بآلاف المرات (مصادر الطاقة، السوق، تنظيمات المقاومة، المساحة الجغرافية، عدد السكان، الإمكانيات المادية، مصادر المياه، المقاطعة وغيرها)، كما أن مدينة إسرائيل كما تطلق هي على نفسها (ونحن نصر على رفع مكانتها بتسميتها دولة).
لا تلعب أي دور سياسي في العالم وليس لها أي صوت في اتخاذ القرارات الدولية (إلا من خلال نفوذ اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأميركية وبعض دول أوروبا) وليس لها قوة تذكر خارج حدودها الجغرافية كدولة.
واحتفال اليهود اليوم ليس احتفالا بقيام دولة بمقومات دولة وإنما احتفاء شعب مشتت نجح في لم شمله والبقاء لمدة ستين عاما مستمرة على قيد الحياة رغم الأهوال التي صادفها من أجل تحقيق وعد بلفور.
لكن هل صحيح أنهم اليوم - كما تنشر بعض الصحف - يهيئون أنفسهم لزوال دولتهم؟
لا أحد يعرف. فهم مصممون على البقاء رغم كل الضغوط النفسية الداخلية والخارجية. وساعدهم في ذلك أن الخمسة ملايين لاجئ فلسطيني لم يعد يعنيهم اليوم أمر العودة. والدول العربية تحاول أن تتقرب من الشعب اليهودي وتتوسل للسلام معه بأي ثمن خوفا من عصا الولايات المتحدة الأميركية.
والمقاومة الفلسطينية العتيقة والانتفاضات التي كادت أن تغير خارطة الأرض انسحبت من ساحة المعركة، ولم يبق فيها إلا بعض فصائل حركة حماس التي ما زالت تعتمد في عملياتها القتالية على أسلحة تعود إلى زمن اختراع البارود ولا تملك طيارة ولا تخترع صاروخا نوويا ولا تطلق قمرا صناعيا بل حتى غير قادرة على الاحتفاظ بشرعيتها القانونية.
أما تنظيمات التحرر الخارجية فإما أنها لا تخطط حاليا لأبعد من حماية وجودها في داخل أراضيها (كحزب الله في لبنان) أو منهمكة في عمليات قتالية متفرقة تضرب بها رقاب العرب والمسلمين قبل رقاب اليهود (كتنظيم القاعدة في العراق) والمتهم من قبل الرأي العالمي بأبشع صفات الإرهاب.
الشعب اليهودي ومعه رئيس الولايات المتحدة الأميركية يحتفلون اليوم ليس فقط بمرور ستين عاما على نجاح تجربة تأسيس دولة من فراغ، بل بمرور ستين عاما على هزيمة 300 مليون عربي نفسيا وعسكريا على يد 7 ملايين نسمة لا غير.
إنه الواقع، لكنه لم يحصل في تاريخ العالم مطلقا من قبل.