عمار علي حسن
يعود استخدام المرتزقة في الحروب إلى زمن غابر من عمر الإنسانية، وتحديدا إلى سنة 1288 ق. م، حين استخدمهم المصريون بقيادة رمسيس الثاني في معركة قادش ضد الحيثيين. وشجع أداؤهم في هذه المعركة فراعنة مصر إلى التمادي في استجلاب المرتزقة إلى صفوف الجيش المصري من أرجاء شتى، لا سيما بلاد الإغريق وما حولها.
وقد أخذ ملوك بلدان أخرى هذا الأمر عن المصريين، من بينهم كورش الأصغر الذي استقدم عشرة آلاف من المرتزقة من بلاد الإغريق ليساعدوه في إقصاء أخيه الملك أرتحششتا الثاني وذلك عام 401 ق. م، فجاؤوا مسرعين إلى بلاد فارس يتقدمهم زينفون تلميذ سقراط، وعيونهم على الذهب الذي سيحصلون عليه لقاء خوضهم هذه الحرب.
وبلغ اعتماد الجيوش النظامية على المرتزقة في الحروب مداه خلال معركة جوجاميلا 331 ق. م التي وقعت بين الفرس بقيادة الملك دارا والرومان بقيادة الإسكندر الأكبر.
فكلا الجانبين اعتمد على أعداد هائلة من المرتزقة، سد بهم الفرس النقص الذي أصاب جيشهم جراء المعارك الطويلة التي خاضوها، وزاد بهم الإسكندر من عدد جنده ليصبح تحت إمرته جيش جرار يكافئ طموحاته التوسعية ورغبته في بناء إمبراطورية مترامية الأطراف.
وتوسع الرومان في تجنيد العاطلين عن العمل واستقطاب الراغبين في تأجير جهدهم ورغبتهم في القتال، حتى أصبحت لديهم جيوش كاملة من المرتزقة، وظفوها في دحر أعدائهم وتوسيع أرجاء إمبراطوريتهم. وقد كافأ الرومان المرتزقة على جهدهم هذا بسن قانون يسمح بمنح الجنسية الرومانية لكل غريب يرتدي البزة العسكرية وينخرط في صفوف جيوشهم.
وسلك القرطاجيون الدرب نفسه، فجلبوا مرتزقة من أجناس شتى، ليصبح جيشهم خليطا من الغاليين والليبيين والفينيقيين والإسبان. وقد أدى هذا التنافر إلى خسارة الجيش لمعاركه وعودة المرتزقة كاسفي البال، لكن الهزيمة لم تترك في نفوسهم أثرا كبيرا لافتقادهم إلى الروح الوطنية والغيرة على البلاد، ولذا تبلدوا في مواجهة الأهالي واستأسدوا عليم فخنقوا الحريات العامة، وتحولوا إلى عالة اقتصادية وعبء نفسي وسياسي على المجتمع.
ولم يخرج البيزنطيون على هذا التقليد، فجعلوا غالبية جيوشهم من المرتزقة، إلى درجة أن الجيش الذي قاده بليزاريوس لقتال الوندال سنة 532م كان ينتمي إلى أمم عدة. وتصاعد اعتماد البيزنطيين على المرتزقة إلى درجة صارت فيها الفيالق الرئيسية في جيش إمبراطورهم جوستينان من البربر، بما في ذلك الفيلقان المسؤولان عن حماية الإمبراطور نفسه.
وحتى بعد أن وضعت الحروب أوزارها وعم السلم أوروبا سنوات طويلة، لم يعان المرتزقة من البطالة، إذ استأجرهم بعض القادة والساسة وشكلوا منهم جيوشا استعملوها في السطو والسلب والنهب وبث الرعب في نفوس الرعية. وكان في مقدمة هؤلاء الساسة جيسكار أحد أفراد أسرة البارون، الذي قاد جيشا كبيرا من المرتزقة، قام بقطع الطرق وفرض الأتاوات وسرقة الأهالي.
وقد بلغ هذا الجيش من القوة والتمكن ما حدا بمؤسسه إلى أن يطالب البابا غريغوري الرابع سنة 1059 بأن ينصبه ملكا على إيطاليا. وبلغ الأمر أوجه بتكوين وليام الفاتح جيشا كاملا من المرتزقة، ينتمون إلى الفرنسيين والإيطاليين والنورمانديين وغيرهم ليغزو به إنجلترا.
وتوحش المرتزقة في أوروبا إلى درجة أن فكر الحكام في عملية حربية كبيرة وواسعة تساعد في التخلص منهم، فكان قرار شن حرب »الفرنجة« التي يطلق عليها الغرب »الحروب الصليبية«، والذي صادف غريزة المرتزقة النهمة إلى حصد الغنائم.
وتعاونت الكنيسة مع هؤلاء الجند المأجورين على أوسع نطاق، حتى أن الحملة »الصليبية« الثانية وما بعدها اعتمدت أساسا على المرتزقة وبعض الرهبان. فلما أخفقت هذه الحملات الاستعمارية عادت أوروبا إلى سابق عهدها من المعاناة لتزايد سطوة المرتزقة، لا سيما أن بعض الملوك استعملوهم في قهر شعوبهم وفرض الأمن، وقمع المعارضين للسلطة والمتذمرين منها.
وقد أنعشت الحروب الطويلة التي نشبت بين المختلفين في المذاهب الدينية حركة المرتزقة بأوروبا، وجعلت من وجودهم أمرا طبيعيا، حتى بات الفرد منهم يحمل لقب »جندي«.
وتبوأت سويسرا الموقع الذي كان يحوزه الإغريق في تصدير المرتزقة، نظرا لما أظهره المحاربون السويسريون من قدرة قتالية فائقة، بعد إخضاعهم لتدريبات عسكرية مكثفة تحت رعاية مقاتلين محترفين، حتى باتوا يعرفون ب(مروضي وقاهري الملوك).
لكن الارتزاق امتد أيضا إلى كل من هولندا وألمانيا وإنجلترا نفسها، ليصبح المرتزقة علامة مميزة في كل الحروب الأهلية والإقليمية.
وقد جلب لويس الحادي عشر ملك فرنسا أعدادا غفيرة من المرتزقة السويسريين، ووقع مع المقاطعات السويسرية اتفاقية عام 1474 التي جعلت لفرنسا دون غيرها الحق في استخدام المحاربين في صفوف القوات البرية الفرنسية، مقابل رواتب مجزية تدفعها الخزينة الملكية. وظلت هذه الاتفاقية سارية المفعول حتى عهد لويس الثاني عشر 1509، حين خرقها البابا يوليوس الثاني، وجند ستة آلاف سويسري في »الحلف المقدس« الذي تزعمه لطرد الفرنسيين من إيطاليا.
وتمكن المرتزقة من حسم معركة نافورا عام 1513، لصالح رابطة مالين التي كونها البابا ليو العاشر والإمبراطور ماكسيميليان فرديناند ملك اسبانيا، ضد الحملة التي قادها ملك فرنسا فرانسوا الأول على إيطاليا.
ولعبوا أيضا دورا سلبيا في هزيمة الجيش الفرنسي في معركة بيكوك عام 1522، عندما غضب المرتزقة المنضمون إلى صفوفه من قرار قائده لوتريك بإخلاء مدينة ميلانو تحت ضغط هجمات الإيطاليين، فتمردوا عليه مطالبين بدفع أجورهم أو تسريحهم أو الدخول في المعركة للحصول على الغنائم.
واستعمل نابليون بونابرت المرتزقة في حروبه التوسعية، وشكلوا أكثر من نصف جيشه الذي حاول غزو روسيا عام 1812. وحين قامت الجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1848، راحت تزيد من اعتمادها على العناصر الأجنبية ورجال المستعمرات في تشكيل جيشها، الذي بات يضم جنودا من بلاد المغرب العربي والهند الصينية وفيتنام وافريقيا جنوب الصحراء، يتلقون رواتب شهرية ويحصلون على مزايا وعطايا، مقابل اشتراكهم في القتال من أجل مجد الإمبراطورية الفرنسية ومصالحها.
وفي المقال المقبل سنكمل المحطات التاريخية للمرتزقة حتى نصل إلى المحطة الأخيرة المتمثلة في شركة »بلاك ووتر«، التي تجند مقاتلين مأجورين ينضمون إلى صفوف القوات الأميركية، ليصبحوا »مرتزقة جددا« حسب وصف الخبير العسكري العراقي حسن عبيد عيسى، الذي اعتمد مقالي هذا على إحدى دراساته، إلى جانب دراسة ناصر الدين سعيدوني التي وسمها ب »مفهوم الحرب في عصر النهضة الأوروبية« وكتاب فيكونت مونتغمري »الحرب عبر التاريخ«.