أقام المركز اليمني للدراسات التاريخية واستراتيجيات المستقبل "منارات" محاضرة للأستاذ الدكتور/ علي هود باعباد الأمين المساعد لاتحاد الجامعات العربية تحت عنوان "الهوية العربية الإسلامية في ظل العولمة"، برعاية وزير الأوقاف الأستاذ/ حمود الهتار.
وفي المحاضرة التي حضرها وزير الزراعة والري ووزير الأوقاف وعدد كبير من المثقفين والأدباء والمحاضرين في جامعة صنعاء الذين أثروا المحاضرة بمداخلاتهم القيمة حول الهوية العربية وتأثيرات العولمة على هذه الهوية حتى وصفها البعض بالبلطجة العالمية ومنهم الدكتور/ حمود العودي.
ولأهمية المحاضرة تقوم "أخبار اليوم" بنشرهاعلى حلقات حرصاً منها على تقديم المضمون الذي تضمنته المحاضرة للقارئ الكريم ونبدأ اليوم بنشر الحلقة الأولى.
تغطية/ إياد البحيري
الإجابة عن السؤال الثالث : إلى أين يسير الإنسان ؟ أي ماذا بعد الموت ؟
هناك إجابات مختلفة وهي كالآتي :
الإسلام يقول : إن هناك دارا أخرى بعد الموت أي هناك حياة غير هذه الحياة وهي الحياة الأبدية، وفيها جنة ونار، والإنسان المسلم يلقى نتيجة عمله في الدنيا هناك، إما عملاً صالحاً فيدخله الجنة، وإما عملاً سيئاً فيدخله النار، قال تعالى: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه } ( الزلزلة 7-8)، { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ( الشعراء 88-89)، { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }(الإسراء 13-15 )، { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ( الحديد : 21 )، { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً * خَالِدِينَ فِيهَا لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } ( الكهف 107-108)، { يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } ( القيامة : 13 ).
الاتجاهات غير الإسلامية : بعضها لا يؤمن بحياة بعد الموت ومنها الماركسية، وبعضها يؤمن بالآخرة، ويؤمن بأن هناك جنة وناراً، وأن الجنة سيدخلها الصالحون منهم، والنار سيدخلها غير الصالحين منهم ومن غيرهم، وهم النصارى واليهود وغيرهم من اتجاهات، قال تعالى : {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} (الجاثية : 24)،{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (سورة العصر)، {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً * قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً } [(الكهف : 102-106).
من خلال الإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة يتكون الاتجاه العقدي والفكري للإنسان (الهوية) وتتحدد نظرته وفلسفته للإنسان والكون والحياة، ثم يوصف الإنسان بأنه مسلم أو إنه نصراني أو إنه يهودي أو ماركسي أو علماني. . ومن خلال تحديد الاتجاه تتحدد نوع التربية ونوع الثقافة ونوع الحضارة، وبعدها تبدأ عملية التنافس بين هذه الاتجاهات (الهويات)، فكل اتجاه يريد أن ينشر عقيدته وأفكاره في العالم، ويكسب له أنصاراً، وهو يرى أنه على صواب. . ويكون ذلك الانتشار والكسب عن طريق الإقناع والقدوة الحسنة، أو عن طريق القوة والسيطرة العسكرية. . قال تعالى:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتْ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } (البقرة: 251 )،{ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً }(الحج : 40) وقال تعالى:{قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً }(الإسراء : 84).
وحسب اعتقادي أن البقاء هو للاتجاه الذي ينسجم مع فطرة الإنسان وهو الاتجاه الرباني الإسلامي لأنه من عند رب العالمين. فهو شامل لكل جوانب الحياة الروحية والمادية، وليس فقط منهاجاً مادياً بشرياً يتأثر ويتغير بتكوينه البشري المادي والعقدي، والقبلي، والقومي، والمحلي، والعالمي، وغير ذلك من عوامل تتغير حسب الهوى النفسي والمكاني والزمني.
ثانياً : التربية (17:17)
تعرف التربية لغة التنمية والتنشئة والإضافة والزيادة والإنماء، واكتساب المهارة في مهنة، وهي من (ربا يربو أي زاد ونما، ربى يربي أي نشأ وترعرع وربى يربي أي أصلحه وتولى أمره ).
إن مفهوم التربية مشتق من فعل متعد، بمعنى أنها تستلزم فاعلاً ومفعولاً، يكونان في علاقة معينة هي التنمية والتنشئة، والمربي والمربي يشتركان في سمات وجوانب معينة، ويعتمدان على أرضية القاسم المشترك بينهما، وهي التي تحدد التربية طبقاً لفلسفة المجتمع، وكلاهما يشترك في الطبيعة الإنسانية رغم الفروق بينهما، وتكون ما يسمى بشخصية الفرد التي هي حصيلة تفاعل قوى الإنسان التي تتكون من: الجانب الجسمي، والجانب الفكري، والجانب العقائدي (أو الجانب الروحي) والجانب الوجداني، والجانب الجمالي، والجانب الاجتماعي. وتقوم التربية على هذه الجوانب قاصدة في النهاية تشكيل الإنسان وتنمية شخصيته التي هي عبارة عن "نظام متكامل من مجموعة الخصائص الجسمية والوجدانية والنزوعية والإدراكية التي تحدد ذاتية الفرد وتميزه عن غيره من الأفراد".
وتعرف التربية أيضاً بأنها " كل المؤثرات والعوامل الصالحة المقصودة التي يعيش وسطها الفرد - وتؤثر فيه - بمعنى الخبرة بجميع عناصرها الصالحة وتحدث التربية داخل المدرسة وخارجها فتشترك فيها جميع المؤسسات التربوية ومؤثراتها وتستمر باستمرار تفاعل الإنسان في مواقف الحياة المختلفة وهي تبدأ من المهد وتنتهي إلى اللحد "، وتعرف أيضاً بأنها "ما يحدث للفرد من خلال النمو والتعليم من ألوان المعرفة والمثل العليا والنمو الجسمي والروحي والعقلي والانفعالي والوجداني والاجتماعي ".
ونستنتج من الاصطلاحات السابقة للتربية إلى الآتي:
أ- إن التربية عملية نمو يمر خلالها الإنسان من طفولته إلى نضجه وهو يتكيف مع أهداف البيئة والمجتمع.
إن التربية عملية هادفة لها أغراضها وغاياتها، فهي تهتم بعقل الإنسان ووجدانه وروحه وجسمه وقيمه واتجاهاته وما لديه من مهارات وأفكار.
ج- إن التربية تقتضي خططاً متدرجة تسير فيها الأعمال التربوية والتعليمية وفق ترتيب منظم صاعد، ينتقل مع الناشئ من طور إلى طور ومن مرحلة إلى مرحلة.
كما يتضح من مفهوم التربية أن هناك فرقا بين التربية والتعليم، فالتعليم يعد الجانب المتخصص من التربية الذي يتصل بالتدريس وموقف المعلم من المتعلم، وبمعنى آخر : إن التعليم يعني حث الأفراد على التعليم، فينقل إليهم المعرفة، أو يدربهم على مهارات معينة ومحددة، ويجعلهم أكثر وعياً بالمعلومات، وهو يقاس بمقدار ما يتعلمه الفرد، في حين أن التربية تعني جميع المؤثرات والعوامل التي يعيش وسطها الفرد، وتؤثر فيه بما فيها عملية التعليم، وتكون داخل المدرسة وخارجها، وتبدأ من المهد وتنتهي عند انتهاء الإنسان من هذه الحياة ومسئولية كل المؤسسات التربوية والثقافية والإسلامية.
ثالثاً : الثقافة (17 :19)
1- مفهوم الثقافة
الثقافة في اللغة " هي التهذيب والصقل والحذق، يقال : ثقف الشيء ثقافاً وثقوفه حذقه، ورجل ثقف حاذق فهم، ويقال ثقف الرمح : أي قومه وسواه، وثقفته بالتثقيف، أقمت المعوج منه " واستعمل العرب كلمة (ثقافة) بمعنى التقويم والتهذيب والحذق والفطنة، ووردت عندهم أيضاً بمعنى الوجود وبمعنى التمكن والغلبة ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى : { إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً } (الممتحنة : 2)،{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} (الأنفال : 57)، وفي اللغات الأوروبية كانت كلمة الثقافة وما زالت ذات صلة وثيقة بالزراعة وتجمعها كلمة واحدة (Culture) ومنها زراعة الأرض بعد تهذيبها وإعدادها (Agriculture).
وللثقافة تعريفات واصطلاحات عديدة منها " جماع السمات الروحية والمادية والفكرية والوجدانية التي تميز مجتمعاً بعينه " وهي بذلك تشمل مجتمعة الفنون والآداب وطرائق الحياة، والتراث الحضاري كما تشمل القيم والمعتقدات والتقاليد والحقوق الأساسية للإنسان.
كما تعرف " النسيج الكلي المعقد من الأفكار، والمعتقدات، والعادات والتقاليد والاتجاهات، والقيم، وأساليب التفكير، والعمل، وأنماط السلوك، وكل ما يبنى عليه من تجديدات، أو ابتكارات، أو وسائل في حياة الناس، مما ينشأ في ظله كل عضو من أعضاء الجماعة، ومما ينحدر إلينا من الماضي فنأخذ به كما هو، أو نطوره في ضوء ظروف حياتنا وخبراتنا ".
وتؤثر في عملية الثقافة وتطورها ثلاثة عناصر:
عناصر عامة: وهي التي يشترك فيها أبناء المجتمع جميعاً، وهي التي تميز ثقافتهم عن ثقافة غيرهم كالثقافة الإسلامية بالنسبة للمسلمين.
عناصر متخصصة: تختلف من إنسان إلى آخر من حيث المهنة والجنس وغيرها من المؤثرات، وهذه العناصر المتخصصة تنسجم مع العناصر العامة وتتأثر بها. وتلعب التربية بمعناها الواسع دوراً كبيراً في تحديد العناصر العامة والمتخصصة حيث يربى الإنسان في إطار معين وفي داخل الإطار العام للمجتمع.
عناصر متغيرة: وهي العناصر الدخيلة على الثقافة، سواء على العناصر العامة أو المتخصصة، لذا لا بد أن تقوم الثقافة على الانسجام بين عناصرها وعلى نبذ كل دخيل عليها، لا يتلاءم مع هذه العناصر العامة والمتخصصة، وإذا تلاءم وانسجم مع تلك العناصر أصبح جزءاً منها.
2- أهمية الثقافة في بناء هوية الإنسان (17 :20)
تعد الثقافة جزءاً من أهم أجزاء تكوين الإنسان العقدية والفكرية والسلوكية، فهي قوة بلورة لشخصية الإنسان كما أن التربية قوة تكوين لها.
إن من أهمية الثقافة للإنسان هي المحافظة والتجديد، المحافظة على عناصر الثقافة للمجتمع، العامة منها والمتخصصة، التجديد في إدخال العناصر المتغيرة النافعة للمجتمع المطورة له والمتلائمة مع العناصر العامة، لذا يكون التجديد في الثقافة على أساس أنه مكمل للمحافظة، وهنا يواجه المجتمع التحدي الكبير وهو متى يحافظ ؟ ومتى يجدد ؟ وعلى أي شيء يحافظ ؟ وفي أي شيء يجدد ؟ وكل ذلك يعود إلى قوة العقيدة، وقوة التربية أو ضعفهما، فمن خلالهما تأتي عملية المحافظة وعملية التجديد في الثقافة، ومن هنا تبرز أهمية الثقافة في بناء هوية الإنسان وحضارته.
3- الهدف النهائي من العقيدة والفكر والتربية والثقافة (17 :20)
إن الهدف النهائي أو الغائي من العقيدة والفكر والتربية والثقافة هو بناء هوية إنسان متميز عن غيره من أبناء المجتمعات الأخرى، عقيدة وفكراً وسلوكاً الذي من خلاله تقام حضارة فكرية ومادية متميزة عن غيرها من الحضارات التي سبقتها، أو التي في زمنها، فهي تعطي جوانب روحية وجوانب مادية، ومن أجل هذا ركز أعداء الأمة الإسلامية على عملية تحطيم العقيدة والفكر والتربية والثقافة التي من خلالها أوجدوا شخصية ممسوخة العقيدة والفكر والسلوك، والتي لم تستطع أن توجد حضارة، فبقيت مقلدة وتابعه، وعليه فإن الركن الأول من أركان إعادة الحضارة الإسلامية هو الاهتمام ببناء هوية الإنسان عقدياً وفكرياً وتربوياً وثقافياً في إطار منهج الإسلام الفكري والسلوكي.
إن الهوية العربية الإسلامية الفاعلة يجب أن تتوافر فيها ثلاثة شروط :
- الإيمان بالإسلام عقيدة وشريعة وفكرا.
- العمل بالإسلام في كل جوانب الحياة منهجا وسلوكا، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ } (الصف ؛ 2-3) { وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ *}(سورة العصر)
- التقويم المستمر للأعمال التي تقوم بها الشخصية (الهوية ) أي المحاسبة اليومية عن كل الأعمال التي تقوم بها الشخصية، في إطار الإسلام بعامة، قال تعالى:{ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ }(ق: 18)
4- الترابط بين التربية والثقافة والحضارة (19 :7)
تعد هوية الإنسان فكريا وسلوكيا محصلة لعقيدة ما في مجتمع ما، وتعد الحضارة الفكرية والمادية نتاج لهوية الإنسان من خلال تلك العقيدة والتربية والثقافة، التي تميز شخصيته عن غيرها، لذا فالترابط بين التربية والثقافة والحضارة ترابط متين وقوي، لا يمكن الفصل بينها، فالتربية قوة تكوين لهوية الإنسان، والثقافة قوة بلورة، وكلتا القوتين تنطلقان من عقيدة واحدة، ومن خلال ذلك تبرز الهوية الفردية والهوية الاجتماعية، ثم تظهر الحضارة الفكرية والمادية لذلك المجتمع ولتلك الأمة.
ولذا فإن عملية الترابط بين التربية والثقافة والحضارة يمكن وضعها كالآتي:
عقيدة (فلسفة المجتمع) + عملية تربية + عملية الثقافة = الهوية للإنسان، ثم الهوية القومية للمجتمع.
الهوية = عقلية ونفسية (عقلية تفكر وتحلل وتحكم كل شؤون الحياة والأحداث)، على أساس نظرية كلية للإنسان والكون والحياة، ونفسية تقوم بتصريف الغرائز والميول وفق النظرية أو التصور الكلي التي تنبثق منه كل تشريعات المجتمع وأسس علاقاته،، قال تعالى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً } (الإسراء : 84).
الحضارة = هوية الإنسان + أرض يقيم عليها أنظمة الحضارة (دولة مستقرة) + وقت تتفاعل من خلاله عناصر الحضارة.
إذن الهوية العربية الإسلامية من الجانب العقدي والفكري والتربوي والثقافي تتكون من خلال :
عقيدة وفكر إسلامي شامل وواع ٍ بشئون الحياة.
تربية إسلامية شاملة من المهد حتى اللحد.
ثقافة إسلامية مستمرة ومتطورة تحافظ على الأصول وتتجدد مع المتغيرات الثقافية والحضارية المفيدة والتي لا تتناقض مع الأصول الثابتة.
ويوضح الهيكل التالي تصوراً من قبل الباحث للهويات في العصر الحاضر وهي الهوية العربية الإسلامية المطلوبة والمفروضة، والهوية العلمانية في ظل العولمة المعاصرة.
الهوية العربية الإسلامية في ظل العولمة
((إن تحكم العولمة في مجالات الاقتصاد والمبادلات التجارية ودفعها إلى محاولة التحكم أيضاً في " النظام الثقافي العالمي "، وهكذا بدأت تظهر في الأفق محاولات فرض نموذج ثقافي عالمي، دون اعتبار للخصوصيات الثقافية للشعوب والأقليات والجاليات، وفي هذا السياق نجد أن هناك عدة أسئلة تفرض نفسها، ومنها على سبيل المثال : كيف يتسنى المحافظة على الهوية الثقافية والحضارية في ظل العولمة الباسطة نفوذها اليوم على المجتمع الدولي ؟ بل كيف يمكن التوفيق بين مقتضيات السيادة الوطنية وبين متطلبات العولمة ؟ إن اتجاهات العولمة تسير نحو التأثير السلبي على الهوية والسيادة معاً )) (14 :16)
((من المؤكد أن العولمة نفسها هي نظام في طور التكوين والتأسيس لم يبلغ بعد الشكل النهائي الذي سوف تستقر عليه، وهناك العديد من الباحثين في مستقبل نظام العولمة يتوقعون حدوث تحولات جذرية في العقدين القادمين من شأنها أن تعدل من اتجاه العولمة الحالي كما أن هناك باحثين آخرين يرون أن التحكم في النظام الثقافي العالمي لن يتم بالسهولة نفسها التي تم بها التحكم في النظام الاقتصادي والتجاري بل العكس ظهرت بوادر تدل على أن العولمة عملت على إيقاظ الوعي بالخصوصية الثقافية والحضارية لدى الشعوب والأقليات )) (8 :20)
وإذا كان من المستبعد حالياً الانفلات من ضغوط العولمة الاقتصادية والتكنولوجية، فإنه بالإمكان إيجاد تيار ثقافي مضاد يقف في مواجهة روح الهيمنة التي تنطوي عليها هذه العولمة فكراً ونظاماً، وتطبيقاً وممارسة، وفي التعامل مع الآثار المترتبة عليها في انتظار بروز قوى عالمية جديدة ستكون مناوئه للقوى المتحكمة حالياً في مقاليد النظام العالمي أو على الأقل منافسة لها منافسة الند للند. ففي أحدث دراسة (لصمويل هنتغتون ) يوضح فيها التناقض الذي تقع فيه العولمة، كتب في عدد شهري ( نوفمبر - ديسمبر 1996 ) في مجلة ( شؤون خارجية) دراسة تحت قنوات مثير للغرابة فعلاً: (الغرب: مفرد وليس عالمياً ) يفرق فيه بين (التحديث) وبين (التغريب) ويقول (( إن شعوب العالم غير الغربية لا يمكن أن تدخل النسيج الحضاري للغرب، حتى وإذ استهلكت البضائع الغربية، وشاهدت الأفلام الأميركية، واستمعت إلى الموسيقى الغربية، فروح أي حضارة في اللغة والدين والقيم والعادات والتقاليد، وحضارة الغرب تتميز بكونها وريثة الحضارة اليونانية والرومانية والمسيحية الغربية، والأصول اللاتينية للغات شعوبها، والفصل بين الدين والدولة، وسيادة القانون والتعددية في ظل المجتمع المدني، والهياكل النيابية، والحرية الفردية "، ويضيف قائلا ً ( ان التحديث والنمو الاقتصادي لا يمكن أن يحققا التغريب الثقافي في المجتمعات غير الغربية، بل على العكس، يؤديان إلى مزيد من التمسك بالثقافة الأصلية لتلك الشعوب، ولذا فإن الوقت قد حان لكي يتخلى الغرب عن وهم العولمة، وان ينمي قوة حضارته وانسجامها وحيويتها في مواجهة حضارات العالم وهذا الأمر يتطلب وحدة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ورسم حدود العالم الغربي في التجانس الثقافي)). (23 :5)
بعد هذه المقدمة،هناك سؤال يطرحه الكثيرون في العالم العربي والإسلامي : هل الهوية العربية الإسلامية في استطاعتها العيش تحت مظلة العولمة بكل مكوناتها الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية كما هو في الواقع الملموس ؟!.
ويمكن الإجابة عن هذا السؤال بسؤال آخر، وهو هل الرؤية الاقتصادية والسياسية والثقافية والحرية وحقوق المرأة والديمقراطية للعولمة متوافقة مع رؤية الهوية العربية الإسلامية ؟!.
والإجابة القطعية : لا. فكل رؤية لها منطلقاتها العقدية والفكرية للإنسان والكون والحياة مما ينعكس على أنظمة الحياة وشئونها الأخرى. يمكن تتفق الهويتان على إقامة حضارة، ولكن كل هوية تقيم تلك الحضارة في إطار رؤيتها الخاصة، فمثل الرؤية الإسلامية ترى أن تكون الحضارة في إطار " لا إله إلا الله محمد رسول الله " أي في إطار المنهج الإسلامي والأنظمة الإسلامية، ولكن العولمة ترى أن تكون الحضارة في إطار " ما لقيصر لقيصر وما لله لله " أي في إطار العلمانية، ومن هناك يبدأ مفترق الطرق، وبما أن الحضارة لها ركنين عقدي فكري، ومادي منفعي، فإن الجانب المادي المنفعي لا تعارضه أية هوية من الهويتين، ولكن يمكن أن يستخدم في إطارها العقدي الفكري مثل جهاز التلفاز، يستفيد منه المسلم وغير المسلم، ولكن البرامج التي يمكن أن تقدم يجب أن تكون في إطار تلك الهوية، حتى تتم الاستفادة العقدية والثقافية من جهاز التلفاز، حتى الجانب الفكري يمكن الاستفادة منه في إطار كل هوية، مثال ذلك: نظام البنوك، ونظام التأمين والنظام السياسي وغير ذلك، ويكون في إطار الهوية.
وعلى هذا الأساس يمكن أن تعيش الهوية العربية الإسلامية مع العولمة على قاعدة الاستفادة مما تقدمه العولمة من آراء وأفكار وتكنولوجيا وغيرها في إطار العقيدة والفكر الإسلامي وفي ضوء المنطلقات والقواعد التي وضعها الإسلام للهوية العربية الإسلامية وهي : (4 :22)
الأصل في المعاملات الإباحة والمحظور محدد وقليل.
المصلحة مصدر من مصادر التشريع. - لا تناقض في الدين بين نقل صحيح وعقل صريح.
الحكمة ضالة المؤمن حيث وجدها فهو أحق الناس بها - ودرأ المفاسد مقدم على جلب المصالح.
لا ضرر ولا ضرار. - لا إكراه في الدين.
ولا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم.
(( الإسلام يؤيد تأييداً كاملاً كل ما جاءت به المدنية الحديثة من علوم ومخترعات مما فيه نفع للبشر، وهو وان كان يحث المسلمين على أن يكونوا الرواد في الخير كله وان يكونوا الهداة للبشر في كل سبل الحياة، فإنه لا يضيق على الإطلاق بأن يأتي الخير على أيدي غير المسلمين، بل يفرض على المسلمين ان يحتفوا بالحق والخير وينتهجوا بهما أينما كانا وممن كانا، ولا يقصر هذا على العلوم التطبيقية والمنجزات التقنية وحدها، كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان، بل يمتد إلى كل مجالات المعرفة والحياة بأسرها، فكل ما فيه نفع وخير مما لا يتعارض مع الدين فهو من الدين تبعا وان كان من عند غير المسلمين، بل وان كان من عند أشد الناس عداوة للمسلين)). (4 :23).
ويقول المرحوم/ علي عزت بيجوفينش رئيس جمهورية البوسنة والهرسك السابق (( حين نتحدث عن العلاقة بين الحضارة والثقافة في العالم الإسلامي من جهة وفي الغرب من جهة أخرى، نجد أن المسلمين يواجهون خيارا عليهم أن يتجنبوا فيه الغلو، سواء في اتجاه رفض الحضارة الغربية برمتها، أو في اتجاه المحاكاة العمياء لها، فكلا الاتجاهين خطير، ذلك أن نرفض التعاون يعني أن نظل ضعفاء إلى الأبد، وقبول الحضارة الغربية دون مناقشة ودون انتقاء معناه أن نفقد هويتنا وننقطع عن ذاتيتنا)).
((إننا لا نستطيع أن نعيش بمعزل عن بقية العالم، فعلينا أن نتذكر ما أمرنا به الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال "اطلبوا العلم ولو في الصين" والواقع ان حضارة الغرب إنما تمثل ظاهرة عالمية أسهم فيها عديد من العلماء الذين ينتمون لمختلف الديانات والشعوب، فقوة الغرب لا تكمن في اقتصاده أو في قوته العسكرية، فليس هذا سوى ما يبدو عليه الأمور في ظاهرها، أمام المصدر الدائم لهذه القوة فيتمثل في حقيقة الأمر في الفكر النقدي الذي ورثته أوروبا من بيكون، وورثه بيكون في أغلب الظن عن العرب، وهذا الفكر هو العنصر الثاني الذي نحتاج إليه ".
" إننا نؤمن بأن الأمم القوية التي تتعرض للمحن، وان الأمم التي تتمسك بمبادئها الأخلاقية حتى في أشد الظروف وتظل مخلصة لذاتها ومنفتحة على العالم في الوقت ذاته، هم الأمم القوية حقاً، وهذا ما أرجوه لشعبي وللعالم الإسلامي كله " (16: 18).