;

الفنون الجحوية.. السخرية للتعبير عن متناقضات المجتمع 1265

2008-06-14 12:10:45

د. كمال يونس

الأدب الشعبي هو تعبير فني أدبي عن الموروث الثقافي والحضاري والقيم الإنسانية والمثل الاجتماعية للشعب، وإبراز خصائصه القومية، مما يسمه بالعراقة والأصالة، ويضفي عليه حيوية يستمدها من مرونته وقدرته على النماء والتطور، والانتقال عبر الأزمان، ذلك لأنه يفي بحاجات المجتمع الشعورية والفكرية والمعنوية والجمالية، إذ يصدر عن وجدان جمعي، قوامه الرواية الشفوية، والملكية المشاعة، فالشعب هو المؤلف والمتذوق والمتلقي في آن واحد.

ومن الشخصيات الشعبية الأثيرة شخصية جحا التي وصفها العالم الراحل د. محمد رجب النجار في درته الخالدة تلك الدراسة التي تعد المرجع الأشمل والأوفى عن جحا، والتي أوردها في كتابه "جحا العربي. . شخصيته وفلسفته في الحياة والتعبير" بأنها تحمل في طياتها تأكيدا للوحدة القومية، وتجسيدا لغاياتها وقيمها من وحدة العادات والتقاليد، وانتهاء بوحدة الإبداع الشعبي كالقصص والملاحم والسير والحكايات والنوادر والأمثال، إذ أنها تمثل تواصلا ثقافيا وأصالة تاريخية".

وتكمن عبقرية جحا في ملامح شخصيته فهي عصا توازن في خضم التحديات والمعوقات، تؤكد على ضرورة التمسك بالقيم الإنسانية العليا، والغايات القومية التي تعمل الجماعة على تحقيقها، وهي زاد نفسي وفنى بعيد الأثر يدفع إلى الابتسام والسخرية والضحك والدعابة، كوسيلة حيوية في الدفاع عن التراث، ورد اعتبار الذات للذات، وهي الأقرب إلى دور الكاريكاتير "الصورة" في العصر الحديث "كاريكاتير الكلمة"، إذ تمثل عبقرية الشعب في ابتداع أسلوب ثقافة المقاومة والمواجهة بالحيلة، وتحول المأساة إلى ملهاة، فيحولها الناس بدورهم إلى طرائف ونوادر ونكتا ذات طابع إنساني، متفرد بتحويل نفسه من مشارك إلى متفرج، وما بين الواقع والرمز يسلك مسلك الحكماء في التعبير الفني والأدبي، وفلسفته هي الإيمان بالضحك، ودوره في التغلب على متاعب الحياة، ونمط شخصيته الإنسان الموهوب الذي يجيد قول وابتداع الفكاهة في غير تكلف، سريع البديهة والخاطر، حسن التخلص من المآزق، يتمتع بتوازن نفسي متفرد، يجمع بين المتناقضات، يلعب الدور والدور الآخر، وكونه رجلا من العامة سهل اتهامه ووصفه بالحمق والجنون "مما يطيح بالقيود الاجتماعية التي تثقل كواهلنا، و تحول دون قول الرأي جهرا"، والتغابي والتحامق مما يخفي ذكاءه المتقد، وهو الأب، والزوج، والقاضي، ومستشار القاضي، والمواجه للحاكم، مما يفيد ويمتع المتلقي. ، وقد جمع التراث الجحوي النادرة والنادرة الحكمية والمثل الشعبي واللغز.

النادرة الجحوية: وهي تعبير درامي عن موقف جحا من الحياة، وفيها الغمز واللمز، وللنادرة الجحوية عدة سمات فهي سهلة الألفاظ اللغوية، قريبة الدلالة، شائعة التداول، ممعنة في القصر، وكلما كانت النادرة أقصر كانت أقرب إلى النكتة، وكلما كانت أقرب إلى النكتة كانت أكثر إثارة للضحك، تصاغ نثرا، تدور حول الحياة اليومية، وتياراتها العامة، وتجاربها الإنسانية، عاكسة لرأى الجماعة في الهيئة الاجتماعية والسياسية، بل وفي السلوك السلبى للفرد، إنسانية الشخوص والأبطال، والعنصر الخارق لا يظهر فيها إلا نادرا، خالية من التعقيد في الحبكة والصياغة، نمطية الأبطال والشخوص، لها محور رئيسى واحد "موتيفه"، تعمد إلى الإخلال المقصود بين التوازن أو التناسب الواجب للموقف، و صورة الشخصية، فهي غير مألوفة أو فجائية، تعتمد أساسا على المفارقة وتعرض للمتناقضات من المواقف،مثل الذكاء والغباء، والطيبة والغفلة، والجنون والعقل، والسلطان والضعف، تجمع ما بين القول اللاذع، وجوامع الكلم، واللغز والتورية والمغالطات المنطقية، والحيل البيانية، وتنتهي إلى موقف مرح ذي مغزى عميق.

لذا يمكن تناول خصائصها بالنظر إليها من عدة محاور، أولها المحور الموضوعي، من حيث كونها تعبر عن رأى الجماعة التي أنشأتها أو أوردتها، وتقوم بترديدها، كى تروح عنها من وطأة الأحداث العامة، مرسخة الحكمة العملية للشعب، ثانيها المحور النفسي مسخرة الموقف المرح، وذلك بأن يجعل جحا من نفسه من خلال نوادره شخصا آخر يشاهد نفسه، ويسخر منها، فتتحول لدى الناس إلى طرائف وملح، مما يجعلها تسرى بين أفراد الشعب كله، خالقة روحا من المرح، تخفف عنه همومه على طريقة "شر البلية ما يضحك"، دون أن تمس دورها الجدي، ثالثها المحور الفني، لكونها نثرا وموجزة " فخير الكلام ما قل ودل"، فنمطية الشخصيات تيسر متابعة تلونها، وردود أفعالها في المواقف المختلفة، وأعطتها القدرة على النماء والتطور، مما أضفي عليها صفة المرونة والطواعية، بما يميزها عن غلبة الطابع الواقعي الذي يعطيها روح الملاءمة لكل الأزمان، مما جعلها عرضة دون إخلال بمضمونها وهدفها للتحريف والتبديل والإضافة.

ولذا يجب التأكيد على تلك الحقائق حول النادرة الجحوية، فجحا ليس صاحب كل النوادر التي نسبت إليه، فقد استلهم الجانب الإنساني من جحا العربي "الأصل"، والجانب الاجتماعي من جحا التركي والفارسي، والجانب السياسي من جحا المصري، الذي لقى من الشيوع والانتشار في مصر دون غيرها من البلدان العربية، مع أنه غير مصري، وليس له واقع تاريخي مثل جحا الفزارى "ينتسب جحا العربي إلى قبيلة فزارة، وعاش بالبصرة ومات بالكوفة"، أو جحا الرومي "الخوجة نصر الدين"، ولذلك أسباب منها كونه رمزا فنيا منقولا إليها في إطار السخرية، والتندر والفكاهة، وهو إطار أثير لدى المصريين، مع اعتباره رمزا شعبيا يعكس من خلاله أنماط الإبداع الأدبي الأخرى، وقد شكل جانبا رئيسيا من جوانب ثقافة المقاومة بالحيلة، والتعبير عن الشخصية، لذا كان الأسلوب الجحوي في مصر، تعبيرا ووظيفة سابقة لوجود الرمز الجحوي "التركي والمصري"، لما يدور في إطارها من فلسفة، كونها جزءا أصيلا من تكوين الشخصية المصرية في المواجهة والتعبير.

جحا والنادرة الحكمية: ومن صنوف الإبداع الجحوي النادرة الحكمية، وهذا جانب جاد تأملي، ذو نزعة صوفية، ويقترب من الوعظ المباشر، أو الكلم الجامع، ويخلو تماما مما عرف عن النموذج الجحوي من التندر والسخرية والدعابة، وهو بهذا اقرب إلى الحكمة الجادة، مثلا "قيل له أين مكان الحق فقال وهل يعلم مكان وجود الحق حتى يعين موضعه".

المثل الجحوي: المثل هو لسان الشعب، وشكل بارز من أشكال الإبداع الشعبي، يعكس خلاصة تجاربهم، مستمدا رمزيته من كل طبقات الشعب، ما جعله قولا يجرى على ألسنة الشعب، ولقد تحقق للمثل الجحوي هذا كله، حتى صارت الأمثال الجحوية معينا خصبا لكثير من الأمثال، بما لها من علاقة موضوعية، تعكس فلسفته في التعبير عن متناقضات مجتمعه، فكرية وسياسية واجتماعية، ثقافية وسلوكية، لتكون تلك العلاقة الشرطية الفريدة، التي تربط جحا في الذهن الشعبي بالجانب الفكاهي الساخر، حيث يعرى أو يكشف عيوب مجتمعه، إضافة إلى العلاقة الفنية، حيث يتوافق المثل مع القالب العام للنادرة الجحوية بما للمثل الشعبي من بناء اجتماعي وشكل فني، ويحكى المثل قصة أو حكاية قصيرة جدا أشبه بالنادرة، متميزا بالإيجاز والبلاغة، متفردا في أسلوبه التعليمي، وبساطة تركيبه اللغوي، وأسلوبه سهل مختصر، وفلسفته فلسفة موقف، وفيه استخلاص لنتائج التجربة، في عبارة كلية موجزة، عميقة الدلالة، تحقق الشعور بالرضا أو الارتياح لسماعها، بل وترديدها، وقد يكون المثل نادرة من نوادره الموجزة، أو قولا من أقواله الشائعة، أو عنوانا لنادرة من نوادره مثل مسمار جحا، بوابة جحا، بيت جحا، وقد يشيع المثل وتطغى شهرته على النادرة، فينسى الناس النادرة التي أخذ عنها هذا المثل، أو يجمع بين عبارتين مثل"قالوا يا جحا فين بلدك قال اللي فيها مراتي"، ولا يخفي ما فيها من شيوع روح السخرية والتهكم والاستهزاء، بل والسلبية مثل جحا أولى بلحم طوره، ودنك منين يا جحا، وأغلبها أفرزته البيئة المصرية منسوبة إلى جحا دون أى تباين يذكر، وتتضح الفلسفة الجحوية في المثل الشعبي وقد أصبح لها إطار من خلال مواقفه التي صورها النموذج الجحوي منها وضوح الموقف الفردي " جحا أولى بلحم طوره"، التبعية والتوافق الاجتماعي " قالوا فين بلدك يا جحا قال اللي فيها مراتي، ومن فاته اللحم فعليه بالمرق"، الحرص والحذر والشك في الآخرين "جحا طلع النخلة خد بلغته وياه"، مواقف العداء التقليدية "قالوا مرات أبوك بتحبك قلت عساها اتجننت"، التهكم والسخرية من التدخل فيما لا يعنيه، والإدعاء الكاذب "يكفاه نعيرها"، اللامبالاة والسلبية وعدم الاهتمام بالغير وفيها تجسيد لروح الشماتة والحقد "قالوا يا جحا بقرة أبوك خدوها الحرامية قال هي عند الحرامية زى عند أبويا"، المكر والدهاء والغاية التي تبرر الوسيلة "مسمار جحا، قالوا يا جحا عد موج البحر قال الجايات أكتر من الرايحات".

اللغز الجحوي: لما كان اللغز يعنى الصراع في سبيل الوصول إلى المعرفة، بإزالة الحواجز بين السائل والمسؤول، تفرد اللغز الشعبي الجحوي بكونه بسيطا غاية البساطة، لا يقدم معرفة بالمعنى الصحيح، ولا معلومة معينة، بل يحمل في طياته حسن التخلص والبراعة في إيجاد مخرج من السؤال أو اللغز المحير المعقد، ولذا جرت ألغازه مع العلماء المتحذلقين، المتعالين، مدعى المعرفة، فالسؤال معضلة، والإجابة أكثر تعقيدا، مما يخرجه منتصرا مسفها ذلك المتنطع مثل "كم عدد موج البحر؟. . قال الجايات أكتر من الرايحات".

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد ناصر حميدان

2025-01-18 00:17:31

وطن يصارع الضياع

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد