يبدو أن العلاقات السورية الفرنسية تمر هذه الأيام بشهر عسل يبشر بمستقبل زاهر وعلاقات مثمرة للطرفين. وحيث إن السياسة الفرنسية اعتمدت منذ انتخاب الرئيس ساركوزي على الانفتاح العولمي على العالم وبالخصوص على تسخين العلاقات مع المستعمرات الفرنسية القديمة بداية، فليس من المستغرب أن تكون سوريا هي مركز الانطلاق الفرنسي نحو محيط دائرة الشرق الأوسط بل وإفريقيا. فرنسا تعرف جيدا أنها لن تجد ولن تتوفر لها تربة أكثر خصوبة من دول الشرق الأوسط (باستثناء إسرائيل) لفتح أبوابها لها كاملة في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمار.
لكن لماذا سوريا وليس لبنان أو مصر أو الأردن؟
سوريا لأنها أولا ظلت على مدى عقود طويلة منغلقة على نفسها، ولم تفتح أبوابها لأي استعمار جديد إلا من خلال الدعم العسكري والمعنوي الذي كان يقدمه لها الاتحاد السوفييتي سابقا. ووجدت نفسها بدون حليف بعد انهيار هذا الأخير.
والحقيقة أن الاتحاد السوفييتي لم يعرف وقتها كيف يستثمر هذه الموقع الاستراتيجي ولم يتعد في علاقته مع سوريا خطوط حفظ توازنه في المنطقة أمام التوسع والخطط الأميركية تحت ذريعة حماية مصالحها من جهة والنزاع العربي الإسرائيلي من جهة أخرى، ودون أن يتجاوزه لأبعد من ذلك. لذا ظلت سوريا أرضا بكرا تنتظر من يأتي لطلب يدها أو على الأقل ودها قبل أن يسبقها قطار الزمن.
ولم تضيع فرنسا الفرصة لكي تنتزع هذا الموقع الجغرافي والاستراتيجي الخصب والبكر قبل أن يفكر الآخرون في الاستيلاء عليه. الواقع أن من بين أخطاء الولايات المتحدة الأميركية في تعاملها مع المنطق أولا والمنطقة ثانيا هو تعاملها مع سوريا وكأنه أسد كاسر خطير يجب التخلص منه لكنها لم تذهب لمحاولة ترويضه للاستفادة من إمكانياته الهائلة غير المستغلة.
أما فرنسا فتعلمت الدرس من روسيا وأميركا، واستغلت هذا العداء القديم معها لصالحها وفهمت أن الدبلوماسية تحقق أكثر بكثير مما يمكن تحقيقه بالأعمال العسكرية والتهديد والحصار. وقد كانت دعوة ساركوزي للرئيس السوري بشار الأسد (لأول مرة في تاريخ فرنسا) لحضور احتفالات العيد الوطني الفرنسي في هذا العام، أشبه بتلك الغمزة التي تعني الاهتمام والود من طرف واحد. وكان الرد إيجابيا وسريعا.
ثانيا لأن سوريا أصبحت مع سياسة بشار الأسد نظرا إلى صغر سنه وإلى أفكار وآمال وتطلعات الجيل الذي ينتمي إليه أكثر طواعية للتغيير والتطور ومسايرة عولمة القرن الواحد والعشرين والتعاون السلمي والتفاهم حتى مع ألد أعدائه. وهذا ما تبحث عنه دول الغرب في التعامل مع الأنظمة السائدة في الشرق الأوسط وبلدان الدول النامية أو ما تطلق عليها حسب مصطلحاتها، الأنظمة غير الديمقراطية أو الدكتاتورية.
ولم يكن هذا القبول العاطفي ممكنا أيام الرئيس الراحل حافظ الأسد خاصة في تعنته وعناده في تعامله مع إسرائيل. ووجدت فرنسا التي لم تخف في حكومة ساركوزي بالذات توجهها الجديد لضمان أمن وبقاء إسرائيل وهذا ما لم يعلنه أي رئيس فرنسي سابق بهذه الجرأة نظرا للعلاقات الحساسة مع العرب ومع الجاليات العربية في فرنسا، الفرصة سانحة.
وحيث إن سوريا بدأت تعطي إشارات مستمرة - خاصة بعد قبولها الانسحاب من لبنان - باستعدادها للجلوس على طاولة المفاوضات وحل المشاكل العالقة مع الغرب وحتى مع إسرائيل، لذا لم يكن من المنطقي إضاعة هذه الفرصة من قبل ساركوزي. خاصة وأن فرنسا لا تملك إمكانيات الولايات المتحدة لتقديم أي دعم عسكري ومادي لإسرائيل. لذا كان الدعم الدبلوماسي من خلال التقارب مع سوريا هو جل ما تستطيع تقديمه لهذه الدولة التي ظلت في حالة عداء مستمر مع جارتها طوال عقود من الزمن.
ثالثا، اكتشفت فرنسا بعد حرب لبنان في أغسطس 2006 بأن هزيمة إسرائيل كانت فاضحة وأن نجاح مقاومة حزب الله كان قائما قبل كل شيء على الدعم الذي يأتي من طهران ودمشق أو مرورا بأراضيها. ما يعني أن سوريا تمللك في يدها ورقة هامة جدا في توازنات المنطقة وأن إسرائيل لن تنعم بالأمن بعد هذا التاريخ إلا من خلال ترويض الأسد وفصله عن حليفه الآخر على السواحل الشرقية للخليج العربي: إيران.
وبما أنه لم تنجح كل محاولات القوة لإرغامه على الطاعة العمياء فلماذا لا تجرب معه سياسة الجزرة؟ ويبدو أن هذه الجزرة نجحت حيث فشلت الصواريخ العابرة للقارات والتهديدات النووية.
وكان الوقت مناسبا. فإسرائيل من جهة، لم تعد تحلم بوطن يمتد من الفرات إلى النيل وسوريا من جهة أخرى تعبت من انتظار أن يرمي العرب إسرائيل في البحر وفي استعادة الجولان ومن الحصار المستمر ومن تخاذل الدول العربية ومن التأخر أكثر من اللازم عن اللحاق بقطار الحضارة بل عن أبسط وسائل التطور والبنية التحتية وهي التي تمتلك من الإمكانيات التي لا تحصى.
ونجاح مقاومة حزب الله في وجه إسرائيل استفادت منه سوريا في النهاية للحصول على دعم معنوي لا يقدر بثمن وكأن سوريا وإيران هما اللتان انتصرتا على إسرائيل.
اليوم تأتي زيارة الفرنسي ساركوزي لدمشق على رأس وفد اقتصادي رفيع المستوى لوضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بالاعتراف بوزن سوريا في المنطقة مستقبلا وفي دورها في ردم الكثير من الحفر التي حولت الشرق الأوسط على مر الزمن إلى حقل ألغام يصعب المرور من عليه ولكي تسد النقص الذي حصل بانحسار هيبة قوة إسرائيل وانشغالها بمشاكلها الداخلية.
ولكي تنقل فرنسا العلاقة من حوار عاطفي رومانسي إلى علاقة فعلية مثمرة بدأت بالتوقيع على اتفاقيات تعاون في مجالات النقل الجوي والنفط والغاز والطاقة الكهربائية مع سوريا. بلا شك هناك تطلعات فرنسية أخرى تتعدى هذه الاتفاقيات وتتعدى الحدود السورية.
وقد تصل هذه التطلعات في المرحلة المقبلة إلى ترويض الوحش الإيراني الكاسر على الجهة الأخرى من البحر، أو على الأقل قطع السبل عليه. ولكن تطلعات الرئيس الأسد تبدو أنها أبعد من ذلك بكثير تصل إلى حد إلغاء دور إسرائيل ككلب حراسة عينته الولايات المتحدة على المنطقة.
ويبدو أيضا أن الرئيس الأسد يعلم بأن تحقيق ذلك لن يتم إلا من خلال تنمية اقتصادها وتعزيز بنيتها التحتية وانفتاحها على العالم...
وبعد ذلك لكل حادثة حديث..<