;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الثالثة والأربعون 895

2008-10-18 21:53:30

المؤلف/ علي محمد الصلابي

4- صوم رمضان:

فإنه كان عليه منه فوائت بسبب أمراض تواترت عليه في رمضانات متعددة، وكان القاضي الفاضل قد تولى ثبت تلك الأيام، وشرع رحمه الله في قضاء تلك الفوائت بالقدس الشريف في السنة التي توفي فيها، وواظب على الصوم مقداراً زائداً على شهر، فإنه كان عليه فوائت رمضانين، شغلته الأمراض وملازمة الجهاد عن فضائلها، وكان الصوم لا يوافق مزاجه، فألهمه الله تعالى الصوم بقضاء الفوائت، فكان يصوم وأنا أثبت الأيام التي يصومها؛ لأن القاضي كان غائباً، والطبيب يلومه وهو لا يسمع، ويقول: لا أعلم ما يكون فكأنه كان ملهماً ببراءة ذمته - رحمة الله عليه - ولم يزل حتى قضى ما كان عليه.

5- الحج:

وأما الحج فإنه كان لم يزل عازماً عليه، وناوياً له، سيما في العام الذي توفي فيه، فإنه صمم العزم عليه، وأمر بالتأهب وعملت الرفادة ولم يبق إلا المسير، فاعتاق عن ذلك بسبب ضيق الوقت، وفراغ اليد عما يليق بأمثاله، فأخره إلى العام المقبل، فقضى الله ما قضى، وهذا شيء اشترك في العلم به الخاص والعام.

6- سماعه للقرآن الكريم:

وكان رحمه الله يحب سماع القرآن العظيم، حتى أنه كان يتخير إمامه، ويشترط أن يكون عالماً بعلوم القرآن العظيم، متقناً لحفظه، وكان يستقرى من يحضره في الليل وهو في برجه الجزئين والثلاثة والأربعة وهو يسمع، وكان يستقرئ في مجلسه العام من جرت عادته بذلك الآية والعشرين والزائد على ذلك، ولقد اجتاز على صغير بين يدي أبيه وهو يقرأ القرآن، فاستحسن قراءته فقربه، وجعل له حظاً من خاص طعامه، ووقف عليه وعلى أبيه جزءاً من مزرعة، وكان رحمه الله تعالى رقيق القلب، غزير الدمعة، إذا سمع القرآن يخشع قلبه، وتدمع عينه في معظم أوقاته.

7- سماعه للحديث الشريف:

كان رحمه الله تعالى شديد الرغبة في سماع الحديث، ومتى سمع عن شيخ ذي رواية عالية وسماع كثير، فإن كان ممن يحضر عنده استحضره وسمع عليه، فأسمع من يحضره في ذلك المكان من أولاده ومماليكه، والمختصين به، وكان يأمر الناس بالجلوس عند سماع الحديث إجلالاً له؛ وإن كان ذلك الشيخ ممن لا يطرق أبواب السلاطين ويتجافى عن الحضور في مجالسهم سعى إليه وسمع عليه، تردد إلى الحافظ الأصفهاني بالإسكندرية حرسها الله تعالى، وروى عنه أحاديث كثيرة، وكان رحمه الله يحب أن يقرأ الحديث بنفسه، وكان يستحضرني في خلوته، ويحضر شيئاً من كتب الحديث، ويقرأ هو، فإذا مر بحديث فيه عبرة رق قلبه ودمعت عينه.

8- تعظيمه لشعائر الدين:

وكان رحمة الله عليه كثير التعظيم لشعائر الدين، قائلاً ببعث الأجسام ونشورها ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار، مصدقاً بجميع ما وردت به الشرائع، منشرحاً بذلك صدره مبغضاً للفلاسفة والمعطلة، والدهرية ومن يعاند الشريعة، ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر بقتل شاب نشأ كان يقول له: السهرودي، قيل عنه: إنه كان معانداً للشرائع ومبطلاً وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره، وعرف السلطان به، فأمر بقتله وصلبه أياماً فقتله.

9- حسن ظنه بالله:

وقال ابن شداد: وكان قدس الله روحه حسن الظن بالله، كثير الاعتماد عليه، عظيم الإنابة إليه، ولقد شاهدت من آثار ذلك ما أحكيه: وذلك أن الفرنج خذلهم الله كانوا نازلين ببيت نوبة، وهو موضع قريب من القدس الشريف حرسها الله تعالى يكون بينها بعض مرحلة وكان السلطان بالقدس، وقد أقام يزكا على العدو محيطاً به، وقد سير إليهم الجواسيس والمخبرين، فتواصلت الأخبار بقوة عزمهم على الصعود إلى القدس ومحاصرته، وترتيب القتال عليه، واشتد خوف المسلمين بسبب ذلك فاستحضر الأمراء وعرفهم ما قد دهم المسلمين من الشدة، وشاورهم في الإقامة بالقدس، فأتوا بمجاملة باطنها غير ظاهرها، وأصر الجميع أنه لا مصلحة في إقامته بنفسه، فإنها مخاطرة بالإسلام وذكروا أنهم يقيمون هم، ويخرج هو رحمه الله بطائفة من العسكر يكون حول العدو كما كان الحال بعكا، ويكون هو ومن معه بصدد منع ميرتهم والتضييق عليهم، ويكونون هم بصدد حفظ البلد والدفع عنه وانفصل مجلس المشورة على ذلك وهو مصر على أن يقيم بنفسه، علماً منه إن لم يقم ما يقيم أحد، فلما انصرف الأمراء إلى بيوتهم جاء من عندهم من أخبر أنهم لا يقيمون إلا أن يقيم أخوه الملك العادل أو أحد أولاده، حتى يكون هو الحاكم عليهم والذين يأتمرون بأمره، فعلم أن هذه إشارة منهم إلى عدم الإقامة، وضاق صدره، وتقسم فكره، واشتدت فكرته، ولقد جلست في خدمته في تلك الليلة، وكان الزمان شتاء، وليس معنا ثالث إلا الله تعالى، ونحن نقسم أقساماً ونرتب على كل قسم مقتضاه، حتى أخذني الإشفاق عليه، والخوف على مزاجه فإنه كان يغلب عليه اليبس، فشفعت إليه حتى يأخذ مضجعه لعله ينام ساعة، فقال رحمه الله: لعلك جاءك النوم؟ ثم نهض، فما وصلت إلى بيتي وأخذت لبعض شأني إلا وأذن المؤذن، وطلع الصبح، وكنت أصلي معه الصبح في معظم الوقت، فدخلت شأني إلا وأذن المؤذن، وطلع الصبح، وكنت أصلي معه الصبح في معظم الوقت، فدخلت عليه وهو يمر الماء على أطرافه، فقال: ما أخذني النوم أصلاً، فقلت: قد علمت، فقال: من أين؟ فقلت: لأني ما نمت، وما بقي وقت للنوم، ثم اشتغلنا بالصلاة وجلسنا على ما كنا عليه، فثلت له: قد وقع لي واقع وأظنه مفيداً إن شاء الله تعالى، فقال: وما هو؟ فثلت له: الإخلاد إلى الله تعالى والإنابة إليه، والاعتماد في كشف هذه الغمة عليه، فقال: وكيف نصنع؟ فقلت: اليوم الجمعة يغتسل المولى عند الرواح، ويصلي على العادة وبالأقصى موضع مسرى النبي صلى الله عليه وسلم ويقدم المولى التصدق بشيء خفية على يد من يثق به ويصلي المولى ركعتين بين الأذان والإقامة، ويدعو الله في سجوده فقد ورد فيه حديث صحيح، وتقول في باطنك: يا إلهي، قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبق إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل، فإن الله أكرم من أن يخيب قصدك، ففعل ذلك كله، وصليت إلى جانبه على العادة، وصلى الركعتين بين الأذان والإقامة، ورأيته ساجداً ودموعه تتقاطر على شيبته وعلى سجادته، ولا أسمع ما يقول، فلم ينتفض ذلك اليوم حتى وصلت رقعة من عز الدين جرديك وكان على اليزك يخبر فيها أن الفرنج مختبطون، وقد ركب اليوم عسكرهم بأسره إلى الصحراء، ووقفوا إلى قائم الظهيرة، ثم عادوا إلى خيامهم، وفي بكرة السبت جاءت رقعة ثانية تخبر عنهم بمثل ذلك، ووصل في أثناء النهار جاسوس أخبر أنهم اختلفوا، فذهبت الفرنسيسية إلى أنهم لا بد لهم من محاصرة القدس، وذهب الأنكتار وأتباعه إلى أنه لا يخاطر بدين النصرانية ويرميهم في هذا الجبل مع عدم المياه فإن السلطان كان قد أفسد جميع ما حول القدس من المياه وأنهم خرجوا للمشورة ومن عادتهم أنهم يتشاورون للحرب على ظهر الخيل، وأنهم قد نصوا على عشرة أنفس منهم وحكموهم فبأي شيء أشاروا به لا يخالفونهم، ولما كانت بكرة الاثنين جاء البشير يخبر أنهم رحلوا عائدين إلى جهة الرملة، فهذا ما شاهدته من آثار استنابته وإخلاده إلى الله تعالى رحمه الله.

ثانياًُ: عدله:

قال تعالى: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتائ ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" [النحل: 90]، وأمر الله بفعل كما هو معلوم يقتضي وجوبه، قال تعالى: "يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا" [النساء: 135].

وقد كانت صفة العدل من أبرز صفات صلاح الدين الأيوبي القيادية، وكان يؤمن بأن العدل أحد نواميس الله في كونه، وكان يقينه بأن العدل ثمرة من ثمرات الإيمان، وكان تعلم ذلك من أستاذه الكبير الذي جدد معلم العدل وسار عليه صلاح الدين السلطان نور الدين محمود زنكي، فقد كان صلاح الدين عادلاً، ناصراً للضعيف على القوي، وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام، يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة، وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفراً وحضراً، على أنه كان في جميع أزمانه قابلاً لما يعرض عليه من القصص، كاشفاً لما ينتهي إليه من المظالم وكان يجمع القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل، ولم يرد قاصداً للحوادث والحكومات، ثم يجلس مع الكاتب ساعة، إما في الليل أو النهار، ويوقع على كل قصة بما يطلق الله على قلبه، ولم يرد قاصداً أبداً ولا منتحلاُ وطالب حاجة، وهو مع ذلك دائم الذكر والمواظبة على التلاوة، ولقد كان رؤوفاً بالرعية، ناصراً للدين، مواظباً على تلاوة القرآن العزيز، عالماً بما فيه، عاملاً به، لا يعدوه أبداً رحمة الله عليه، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته، وكشف ظلامته، وأخذ قصته، ولقد استغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له: ابن زهير علي تقي الدين ابن أخيه فأنفذ إليه ليحضره إلى مجلس الحكم، فلما خلصه إلى أن أشهد عليه شاهدين معروفين مقبولي القول أنه وكل القاضي أبا القاسم أمين الدين قاضي حماة في المخاصمة والمنازعة، فحضر الشاهدان، وأقاما الشهادة بعد دعوى الوكيل الوكالة الصحيحة، وإنكار الخصم، قال القاضي ابن شداد: فلما ثبتت الوكالة أمرت أبا القاسم بمساواة الخصم فساواه وكان من خواص السلطان رحمه الله، ثم جرت المحاكمة بينهما، واتجهت اليمين على تقي الدين، وانقضى المجلس على ذلك، وقطعنا على إحضاره دخول الليل، وكان تقي الدين من أعز الناس عليه، وأعظمهم عنده، ولكنه لم يحابه في الحق.

ومما يدل على عدله أنه كان يقف بجانب خصمه أمام القضاء دون أن يرى في ذلك حرجاً أو غضاضة لأن الحق في نظره أحق أن يتبع، وقد حدث أن ادعى تاجر يدعى: "عمر الخلاطي" على صلاح الدين أنه أخذ منه أحد مماليكه ويدعى "سنقر" واستولى على ما كان لهذا المملوك من ثروة طائلة بدون وجه حق، وعندما تقدم التاجر المدعي بظلامته إلى القاضي ابن شداد أظهر صلاح الدين حلماً كبيراً ورضي أن يقف موقف الخصم من صاحب الدعوى، وأحضر كل من الطرفين ما لديه من شهود وما لديه من أدلة يثبت بها رأيه، حتى اتضح في النهاية عند القاضي كذب الرجل وادعاءه الباطل على صلاح الدين، ومع كل هذا رفض صلاح الدين أن يترك المدعي يخرج من عنده خائباً فأمر له بخلعة ومبلغ من المال ليدلل على

صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.

ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد ناصر حميدان

2025-01-18 00:17:31

وطن يصارع الضياع

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد