نبيل مصطفى مهدي
يأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالعمل على القول الصادق الذي يراد به الوصول إلى الحق والصواب، وهو العدل في جميع الأقوال والأعمال، حيث قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديدا"، وقد اناطه سبحانه وتعالى بالتقوى فتكون النتيجة ما أوضحته الآية الثانية: "يصلح لكم أعمالكم"، ويوجه القرآن المؤمنين في أكثر من آية إلى تسديد القول وإحكامه والتدقيق فيه ومعرفة هدفه واتجاهه.
على أن التقوى والقول السديد المحكم أياً كانت منزلتهما، فإنه لا بد من استنادهما إلى أساس ومرتكز ينطلقان منه، فتصدر عنه التقوى ويعود إليه سديد القول، هذا الأساس هو الالتزام الذي هو بمعنى آخر الإيمان بالله وبرسالته.
وذلك ما أشارت إليه الآية المعجزة: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال... "، والأمانة هي الصفة التي ميز الله سبحانه وتعالى بها الإنسان عن غيره، وكانت منشأ تكليفه بالطاعات، التكليف المستند إلى العقل البشري المفكر المنتج، وحرية الإرادة، هذه الهبة التي وهبها الله للإنسان لتكون مناط الاختيار والالتزام، وبالتالي التكليف والمسؤولية.
في حين أبت السماوات والأرض والجبال أن تلتزم لأنها لا تملك العقل وبالتالي لا تملك الاختيار، فهي تعرف بارئها وتهتدي إلى ناموسه وتطيع وتجري وفق هذا الناموس، وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.
أما الإنسان فقد أقدم على قبول هذه الأمانة لأنه يعرف الله بإدراكه وشعوره، ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره ويعمل بمحاولته وجهده، ويطيع الله بإرادته وهو في كل خطوة من هذه الخطوات: يريد ... مدرك .... يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي هذا الطريق.
إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر، وأنها لمخاطرة عظيمة أن يأخذ على عاتقه هذه التبعة الثقيلة، فهو ظلوم لأنه من شأنه أن يكون عادلاً ولم يعدل، لأنه من شأنه أن يكون عالماً ولم يعلم، فأما حين ينهض بالتبعة فيعرف ويهتدي ويطيع ويؤدي حين يصل إلى هذه الدرجة وهو واع مدرك، مريد فإنه يصل حقاً إلى مقام كريم ومكان بين خلق الله فريد.
إنها الإرادة والإدراك والمحاولة وحمل التبعة، هي ميزة هذا الإنسان على كثير من خلق الله وهي مناط التكريم الذي أعلنه الله في الملأ الأعلى وهو يسجد الملائكة لآدم أعلنه في قرآنه الباقي وهو يقول: "ولقد كرمنا بني آدم"، فليعرف الإنسان مناط تكريمه عند الله ولينهض بالأمانة التي اختارها، ولا ينسى العهد فيكون العذاب والعقاب لكثيرين حين يظهر نفاق المنافق وشرك المشرك: "ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات، ويتوب الله عن المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيما".
والنفاق هذه النقيصة الخلقية يتلون الإنسان المتصف بها وفق الجو الذي يعيش فيه موارياً الخبث الداخلي الذي لا يخالطه نور الإيمان.
ولا يقل عن المنافق خبثاً وشراً ذلك الذي يخون الأمانة جهراً، وأمام هاتين الفئتين الضعيفتين من الناس يبرز إيمان المؤمن ساحقاً سموت الأمانة التي التزم بها، صادقاً صدق المبدأ الذي آمن به، ووقف عنده، وأمام هذه الفئات الثلاث في الحياة الإنسانية يقف الإنسان المتبصر المستنير ليختار بين نفاق جبان أو شرك فاجر أو إيمان سام راسخ، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ والله من وراء القصد.