المؤلف/ علي محمد الصلابي
ولقد كنت راكباً في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج وقد وصل بعض اللايزكية ومعه امرأة شديدة التحرق، كثيرة البكاء، متواترة الدق على صدرها، فقال اليزكي: إن هذه خرجت من عند الفرنج، وسألت الحضور بين يديك، وقد أتينا بها فأمر الترجمان أن يسألها عن قضيتها، فقالت: إن اللصوص المسلمين دخلوا البارحة إلى خيمتي وسبوا ابنتي، وبت البارحة استغيث إلى بكرة النهار، فقيل لي: الملك هو رحيم، ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك، فأخرجوني، وما أعرف ابنتي إلا منك فرق لها، ودمعت عينه وحركته مروءته وأمر من ذهب إلى سوق العسكر يسأل عن الصغيرة: من اشتراها ويدفع له ثمنها ويحضرها، وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه، فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه، فما كان إلا أن وقع نظرها عليهما، فخرت إلى الأرض تمر وجهها في التراب، والناس يبكون على ما نالها، وترفع طرفها إلى السماء، ولا نعلم ما تقول: فسلمت ابنتها إليها وحملت حتى أعيدت إلى عسكرهم.
ولقد دخل عليه البرنس أرناط صاحب الكرك مع ملك الإفرنج بالساحل لما أسرهما في وقعة حطين في شهور سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، والواقعة مشهورة تجيء مشروحة في موضعها إن شاء الله تعالى، وكان قد أمر بإحضارها، وكان هذا أرناط اللعين كافراً لعيناً جباراً شديداًَ، وكان قد اجتازت به قافلة من مصر، حين كان بين المسلمين وبينهم هدنة، فغدرها وأخذها، ونكل بهم وعذبهم وأسكنهم المطامير والحبوس الحرجة، وذكروه بحديث الهدنة، فقال: قولوا لمحمدكم يخلصكم، فلما بلغه رحمه الله ذلك عنه نذر أنه متى أظفره الله به قتله بنفسه، فلما مكن الله منه في ذلك اليوم قوي عزمه على قتله وفاء بنذره، فأحضره مع الملك فشكا الملك العطش، فأحضر له قدحاً من شراب، فشرب منه ثم ناوله أرناط، فقال السلطان للترجمان: قل للملك: أنت الذي سقيته، وأما أنا فما أسقيه من شرابي وأطعمه من طعامي.
فقال رحمه الله: أن من أكل من طعامي فالمروءة تقتضي أن لا أؤذيه، ثم ضرب عنقه بيده وفاء بنذره وأخذ عكا، وأخرج الأسرى كلهم من ضيق الأسر، وكانوا زهاء أربعة آلاف أسير، وأعطى كلاً منهم نفقة توصله إلى بلده وأهله، ويروي القاضي ابن شداد هذه القصة التي تنبئ عن تسامحه الكبير ومروءته النادرة يقول ابن شداد: لما مرض الملك الإنكليزي ريتشارد قلب الأسد - أكبر خصوم صلاح الدين - بعث إليه صلاح الدين ورفه عنه بأن أرسل إليه الفواكه والثلج، وكان الصليبيون يعجبون من هذا التسامح الكريم الصادر عن أعدائهم من المسلمين نحوهم.
لقد كان صلاح الدين حسن العشرة، لطيف الأخلاق، طيب الفكاهة، حافظاً لأنساب العرب ووقائعهم، عارفاً بسيرهم وأحوالهم، حافظاً لأنساب خيلهم، عالماً بعجائب الدنيا ونوادرها، بحيث كان يستفيد محاضره منه ما لا يسمع من غيره، وكان حسن الخلق يسأل الواحد منا عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه، وتقلبات أحواله وكان طاهر المجلس، لا يذكر بين يديه أحد إلا بالخير وطاهر السمع فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا الخير، طاهر اللسان، قال ابن شداد: فما رأيته ولع بشتم قط؛ وطاهر القلم، فما كتب بقلمه إيذاء مسلم قط، وكان حسن العهد والوفاء، فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفيه، وجبر قلبه، وأعطاه خبز مخلفه وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلمه إليه، وإلا أبقى له من الخبز ما يكفي حاجته، وسلمه إلى من يكفله ويعتني بتربيته، وكان ما يرى شيخاً إلا ويرق له ويعطيه ويحسن إليه، ولم يزل على هذه الأخلاق إلى أن توفاه الله.
ثامناً: صبره واحتسابه:
الصبر سيد الأخلاق، ورفيق الدرب والطريق إلى الإمامة في الدين، والفوز العظيم، وما من خلق من الأخلاق الفاضلة إلا وهو يرجع إلى الصبر، فالصبر أساس الأخلاق الحميدة، وبذر الخير، وجماع الأمر وأصل كلمة الصبر هي المنع والحسن، فالصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي، والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب، وحقيقة الصبر أنه خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها، وقيل: الصبر: هو الوقوف مع البلاد بحسن الأدب، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى: الصبر في كتابه العزيز في نيف وتسعين موطناً للصابرين بين أمور يجمعها لغيرهم قال تعالى: "أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون" [البقرة: 157"، وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى العبد على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه من خطيئة".
وقال الشاعر:
اصبر قليلاً وكن بالله معتصماً
لا تعجلن، فإن العجز بالعجل
الصبر مثل اسمه في كل نائبة
لكن عواقبه أحلى من العسل
وكان صلاح الدين رحمه الله صابراً على مر العيش وخشونته، مع القدرة التامة على غير ذلك، وكان مثلاً رائعاً في الصبر والاحتساب في ميادين الجهاد، وتلقي الصدمات والمصائب، يقول القاضي ابن شداد: ولقد رأيته بمرج عكا وهو على غاية من مرض اعترضه بسبب كثرة دماميل، كانت ظهرت عليه من وسطه إلى ركبتيه، بحيث لا يستطيع الجلوس، وإنما يكون متكئاً على جانبه إذا كان في الخيمة، وامتنع من مد الطعام بين يديه لعجزه عن الجلوس، وكان يأمر أن يفرق على الناس، وكان مع ذلك قد نزل بخيمة الحرب قريباً من العدو، وقد رتب الناس ميمنة وميسرة وقلباً تعبية القتال، وكان مع ذلك كله يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب، ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة ضربان الدمامل، وأنا أتعجب من ذلك، فيقول: إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل، وهذه عناية ربانية، ولقد مرض رحمه الله ونحن على الخروبة وكان قد تأخر عن تل الحجل بسبب مرضه، فبلغ ذلك الفرنج، فخرجوا طمعاً في أن ينالوا من المسلمين شيئاً بسبب مرضه رحمه الله وهي نوبة النهر، فخرجوا في مرحلة إلى الآبار التي تحت التل، فأمر هو رحمه الله بالثقل حتى تجهز للرحيل، والتأخر إلى جهة الناصرة، وكان عماد الدين صاحب سنجار متمرضاً أيضاً، فأذن له حتى يتأخر مع الثقل، وأقام هو.
ثم رحل العدو في اليوم الثاني يطلبنا فركب على مضض، ورتب العسكر للقاء القوم تعبية الحرب، وجعل طرف الميمنة الملك العادل، وطرف الميسرة تقي الدين، وجعل ولده الملك الظاهر في القلب والملك الأفضل، ونزل هو وراء القوم، وأول ما نزل من التل أحضر بين يديه إفرنجي وقد أسر من القوم، فأمر بضرب عنقه فضرب عنقه بين يديه بعد عرض الإسلام عليه وغبائه عنه، وكلما سار العدو يطلب رأس النهر سار هو يستدير إلى ورائهم، حتى يقطع بينهم وبين خيامهم وهو يسير ساعة ثم ينزل يستريح، ويتظلل بمنديل على رأسه من شدة وقع الشمس عليه، ولا ينصب له خيمة حتى لا يرى العدو ضعفاً، ولم يزل كذلك حتى نزل العدو برأس النهر، ونزل هو قبالتهم على تل مطل عليهم إلى أن دخل الليل، ثم أمر العساكر المنصورة أن عادت إلى محال المصابرة، وأن يبيتوا تحت السلاح، وتأخر هو ونحن في خدمته إلى قمة الجبل، فضربت له خيمة لطيفة، وبت تلك الليلة أجمع أنا والطبيب نمرضه ونشاغله، وهو ينام تارة ويستيقظ أخرى، وأحدقت بالعدو، ورحل العدو عائداً إلى خيامهم من الجانب الغربي من النهر، وضايقه المسلمون في ذلك اليوم مضايقة شنيعة، وفي ذلك اليوم قدم أولاده بين يديه احتساباً: الملك الظاهر والملك الأفضل والملك الظاهر، وجميع من حضر منهم، ولم يزل يبعث من عنده حتى لم يبق عنده إلا أنا والطبيب وعارض الجيش والغلمان بأيديهم الأعلام والبيارق لا غير، فيظن الرائي لها عن بعد أن تحتها خلقاً عظيماً، وليس تحتها إلا واحد يعد بخلق عظيم، ولم يزل العدو سائراً والقتل يعمل فيهم، وكلما قتل منهم شخص دفنوه، وكلما جرح منهم رجل حملوه، حتى لا يبقى بعدهم من يعلم قتله وجرحه، وهم سائرون ونحن نشاهدهم حتى اشتد بهم الأمر، ونزلوا عند الجسر، وكان الإفرنج منهم ما نزلوا إلى الأرض أيس المسلمون من بلوغ غرض منهم؛ لأنهم يحتمون في حالة النزول حماية عظيمة، وبقي في موضعه، والعساكر على ظهور الخيل قبالة العدو إلى آخر النهار، ثم أمرهم أن يبيتوا على مثل ما باتوا عليه، وعدنا إلى منزلنا في الليلة الماضية، فبتنا على ما بتنا عليه إلى الصباح من مضايقة العدو ورحل العدو، وسار على مضض من القتل والقتال، حتى دنا إلى خيامه، وخرج إليه منها من أنجده حتى وصلوا إلى خيامهم، فانظر إلى هذا الصبر والاحتساب، إلى أي غاية بلغ هذا الرجل قال القاضي ابن شداد: ولقد رأيته وقد جاءه خبر وفاة ولد له بالغ أو مراق يسمى إسماعيل، فوقف على الكتاب ولم يعرف أحداً ولم نعرف حتى سمعناه من غيره، ولم يظهر عليه شيء من ذلك سوى أنه لما قرأ الكتاب دمعت عينه، ولقد رأيته ليلة على صفد وهو يحاصرها، وقد قال: لا ننام الليلة حتى تنصب لنا خمسة مناجيق، ورتب كل منجنيق قوماً يتولون نصبه، وكنا طوال الليل في خدمته - قدس الله روحه - في ألذ فكاهة وأرغد عيشة، والرسل تتواصل فتخبره بأن قد نصب من المنجنيق الفلاني كذا، ومن المنجنيق الفلاني كذا، حتى أتى الصباح وقد فرغ منها، ولم يبق إلا تركيب جنازيرها عليها، وكانت أطول الليالي وأشدها برداً ومطراً، ولقد رأيته وقد وصل إليه خبر وفاة تقي الدين عمر - ابن أخيه - ونحن في مقابلة الإفرنج بالرملة، والعدو بيازور، بيننا وبينها شوط فرس لا غير، فأحضر الملك العادل، ولعلم الدين سليمان ابن جندر وسابق الدين بن الداية، وعز الدين المقدم؛ وأمر بالناس فطردوا من قريب من الخيمة، بحيث لم يبق حولها أحد زيادة عن غلوة سهم، ثم أظهر الكتاب، ووقف عليه، وبكى بكاء شديداً حتى أبكانا، من غير أن نعلم السبب، ثم قال رحمه الله والعبرة تخنقه: توفي تقي الدين، فاشتد بكاؤه وبكاء الجماعة، ثم عدت إلى نفسي فقلت: استغفروا الله تعالى من هذه الحالة، وانظروا أين أنتم، فيم أنتم، وأعرضوا عما سواه، فقال رحمه الله: نعم، أستغفر الله، وأخذ يكررها، ثم قال: لا يعلم بهذا أحد، واستدعى بشيء من المارود فغسل عينيه، ثم استحضر الطعام وحضر الناس، ولم يعلم بذلك أحد حتى عاد العدو إلى يافا، وعدنا نحن إلى النطرون، وهو مقر ثقلنا.<
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.