المؤلف/ علي محمد الصلابي
تاسعاً: الوفاء:
والوفاء من الأوصاف العلية والشيم السنية، أمر الله تعالى الخلق به ومدحهم على فعله قال: "يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود" [المائدة:1] وقال تعالى: " يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً" [الإنسان:7].
إذا قلت في شيء نعم فأتمه
فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل لا تسترح وترح بها
لئلا يقول الناس إنك كاذب
وكان صلاح الدين الأيوبي مضرب المثل في الوفاء بالعهود، وكان إذا عقد الصلح التزم به، وإذ عاهد وفى بعهوده، وقد ذكر ابن واصل عن بطرك القدس حين خرج بعد استعادة صلاح الدين للمدينة ومعه من أموال البيع ما لا يعلمه إلا الله تعالى كما يقول ابن واصل، وكان له من المال مثل ذلك، فلم يعرض له صلاح، وحين قيل له خذ ما معه لتقوي به المسلمين ، أجاب بقوله: لا أغدر به، ولم يأخذ منه إلا ما كان قد فرضه على كل رجل عادل من الفرنج وهو مبلغ عشرة دنانير، ثم سير مع البطرك والذين خرجوا معه من المدينة من يحميهم ويوصلهم إلى مدينة صور ، التي أصبحت معقل الفرنج ومكان تجمعهم بعد هزيمتهم في حطين واستعادة ما كانوا يسيطرون عليه من مدن ومواقع في بلاد الشام.
عاشراً: التواضع:
صفة من صفات عباد الرحمن، قال الله تبارك وتعالى: " وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً" [الفرقان: 63]، والتواضع علامة حب الله للعبد، كما قال الله سبحانه وتعالى: "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم" [المائدة:54].
قال ابن كثير: هذه صفات المؤمنين الكمل، أن يكون أحدهم متواضعاً لأخيه ووليه، متعززاً على خصمه، وقد اتصف السلطان صلاح الدين الأيوبي بصفة التواضع، وكان قريباً من الناس، كثير الاحتمال، والمداراة، لم يتكبر على أحد من أصحابه، صبوراً على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوبه وأصحابه، يسمع مع أحدهم ما يكره ولا يعلمه بذلك ولا يتغير عليه، وكان بساطه يداس عند التزاحم عليه لعرض القصص، وهو لا يتأثر بذلك، ويذكر ابن شداد أنه نفرت بغلته يوماً من الجمال وهو راكب في خدمته،فزحمت وركه حتى آلمته وهو يبتسم، وكان صلاح الدين قدوة حسنة لأتباعه، يبدأ العمل بنفسه ثم يدعو غيره للاقتداء به، وينم تصرفه هذا عن إدراك سليم، وما ذلك إلا لأنه فهم أن المكان الأسمى في أي مجتمع إنما هو للعاملين والعمل هو أساس التقييم للأفراد والجماعات، وهو محور كل العلاقات الاجتماعية، وبسبب هذا فقد أحبه الناس العامة منهم والخاصة، وتفانوا في خدمته والتعاطف معه وكانت هذه المحبة هي سر نجاحه، وقوته، لأن ما كسبه غيره باستعمال أساليب القسوة والترهيب، حصل عليه هو بالمحبة والتعاطف والسلوك السليم، وكان أصحابه، يتشبهون به، ويتسابقون إلى المعروف، كما قال تعالى:"ونزعنا ما في صدورهم من غل" [الحجر: 47]، فعندما قرر بناء سور القدس وحفر خندقه، تولى ذلك بنفسه، ونقل الأحجار على عاتقه، وتأسى به جميع الناس الفقهاء والأغنياء والأقرباء والضعفاء، فاحترمه الناس من أجل ذلك، وفي عام "587ه/1191م"، قدم معز الدين قيصر شاه بن قلج أرسلان صاحب بلاد الروم، إلى السلطان صلاح الدين، فأكرمه وزوجه بابنة أخيه العادل، ولما ركب صلاح الدين ليودعه ترجل معز الدين له ، فترجل صلاح الدين، ولما ركب السلطان، عضده معز أيضاً، فقال بعض الحاضرين هامساً وهو يتعجب من هذا الاحترام الشديد لصلاح الدين: ما تبالي يا ابن أيوب أي موته تموت، يركَّبك ملك سلجوقي، وابن أتابك زنكي فهذا شيء موجز عن الرصيد الخلقي لمؤسس الدولة الأيوبية.
وقد اتصف صلاح الدين بمجموعة من الصفات الحميدة والأخلاق الكريمة، من علو الهمة، والحزم والإدارة القوية والقدرة على حل المشكلات وعلى التخطيط والتوجيه والتنظيم والمراقبة، وغير ذلك من الصفات وبسبب ما أودع الله فيه من الصفات الربانية استطاع أن يوحد الشام والموصل ومصر، وغيرها من البلدان تحت زعامته وأن يحقق الانتصار الكبير على الصليبيين في حطين وأن يسترد بيت المقدس، فقد توج جهوده الفذة بنتائج كبيرة على مستوى الفرد، والمجتمع، والدولة وأصبح مشروعه المقاومة للتغلغل الباطني والغزو الصليبي مناراً للعاملين على مجد الإسلام، وقد كشف صلاح الدين يوماً عن مصدر قوته في حديثه مع ابنه الملك الظاهر غازي، وهو في بيت المقدس بعد أن أجرى الصلح مع ريتشارد قلب الأسد، وقبل أن يأذن له بالذهاب إلى حلب إذ أوصاه قائلاً: أوصيك بتقوى الله تعالى، فإنها رأس كل خير، وآمرك بما أمرك الله به ، فإنه سبب نجاتك، وأحذرك من الدماء والدخول فيها والتقلد لها فإن الدم لا ينام، وأوصيك بحفظ قلوب الرعية والنظر في أحوالهم فأنت أميني وأمين الله عليهم وأوصيك بحفظ قلوب الأمراء وأرباب الدولة والأكابر، فما بلغت ما بلغت إلا بمداراة الناس، ولا تحقد على أحد، فإن الموت لا يبقي أحداً واحذر ما بينك وبين الناس، فإنه لا يغفر إلا برضاهم وما بينك وبين الله يغفره بتوبتك إليه، فإنه كريم.
المبحث الثالث
عقيدة الدولة الأيوبية
كانت العودة إلى هوية الأمة المسلمة، وإلى عقيدة أهل السنة والجماعة، من أبرز معالم التجديد في العهد الزنكي والأيوبي، ولقد طال الانحراف وانتشرت البدع، تحميها دولة ظالمة وهي الدولة الفاطمية العبيدية بمصر، فكانت العودة إلى تحكيم الكتاب والسنة من أضخم منجزات الدولتين النورية والصلاحية، فقد أقيم العدل وقمعت البدع، وصبغت الدولة بالصبغة الإسلامية الصافية، وقد سار صلاح الدين الأيوبي على نهج نور الدين زنكي بتطبيق الشرع في سائر أمور الدولة، وتنفيذ العدل وقضى على المظالم، وكان يشرف بنفسه لرفع المظالم واعتمد في ذلك على القضاة والفقهاء، كان صلاح الدين قد اتصف بالإيمان والعبادة والتقوى والخشية من الله والثقة به ، والالتجاء إليه، وكان حسن العقيدة، كثير الذكر لله تعالى، وصبغ دولته بعقيدة أهل السنة والجماعة التي بينها رسول الله وسار على نهجها الخلفاء الراشدون واستمر الأيوبيون بعد وفاة صلاح الدين على هذه العقيدة، وكان صلاح الدين كثير التعظيم لشعائر الدين، وكان مبغضاً للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة، وإذا سمع عن معاند ملحد في مملكته كان يأمر بقتله، ولقد حارب المذهب الشيعي الرافضي الإسماعيلي واستطاع أن ينفذ المخطط الذي وضعه نور الدين زنكي للقضاء على الدولة الفاطمية العبيدية الرافضية وعمل على محاربة العقائد الفاسدة في مصر، وإعادة الفكر الإسلامي الصحيح إليها عبر إستراتيجية واضحة، وقد استفادت الدولة الأيوبية من الجهود العلمية والوسائل الدعوية من الدول السلجوقية والزنكية والغزنوية، فالدولة الأيوبية جاءت بعد دول سنية ساهمت في نشر الكتاب والسنة في الأمة الإسلامية، وقد اهتم صلاح الدين الأيوبي بالمحافظة على أصول العقيدة الإسلامية على مذهب أهل السنة، ونهجوا نهج المذهب الأشعري وحرصوا على محاربة أي انحراف عنها ، والقضاء على مظاهره، وكان معظم الأيوبيين علماء بأصول هذه العقيدة، يقول ابن شداد عن صلاح الدين: وكان رحمه الله حسن العقيدة، كثير الذكر لله تعالى قد أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشائخ العلم، وأكابر الفقهاء، فتحصل من ذلك سلامة عقيدته عن كدر التشبيه، غير مارق سهم النظر فيها إلى التعطيل والتمويه. . .
وقد جمع له الشيخ قطب الدين النيسابوري عقيدة تجمع ما يحتاج إليه أذهانهم في الصغر، ورأيته وهم يقرؤونها بين يديه، ولقد سعت الدولة الأيوبية إلى نشر عقيدة أهل السنة في مصر وكافة أرجائها، وقد حرص صلاح الدين على أن تكون عقيدة أهل السنة هي ذات النفوذ في المؤسسات الفكرية التي أنشأها.
أولاً: توسع الأيوبيين في إنشاء المدارس السنية:
بدأت هذه المرحلة في عام "572ه/ 1176م" أي بعد تمكن صلاح الدين من إخضاع معظم الشام لسلطانه ثم عودته إلى مصر لتدبير شؤونها، ففي هذا العام أمر ببناء مدرستين: إحداهما: للشافعية عند قبر الإمام الشافعي عرفت بالمدرسة الصلاحية، والثانية: للحنفية وتوالى بعد ذلك إنشاء المدارس السنية في أماكن متعددة من القاهرة وغيرها من البلاد من قبل أمراء الأيوبيين وأعوالهم، ولن نستطيع الحديث عن كل هذه المدارس لكثرتها، إذ أصبح حديثنا حول أشهر المدارس. .
التي كان لها دور في عملية التحويل الكبير للبيئة المصرية من المذهب الشيعي إلى المذهب السني.
1- المدرسة الصلاحية:
بدأ بناء هذه المدرسة في عام "572ه/1176م" عند ضريح الإمام الشافعي وكان وقفاً على الشافعية ويصفها السيوطي بقوله: إنها تاج المدارس، ثم يذكر أن التدريس بها أسند للعالم الزاهد نجم الخبوشاني، وقد زار ابن جبير هذه المدرسة في أواخر ذي الحجة من عام "578ه/1183م"، وكان العمل في توسعتها ما يزال مستمراً، وذكر ابن جبير أن هذه المدرسة لم يعمر مثلها في هذه البلاد وليس لها نظير في سعة المساحة والحفاوة بالبناء: يخيل لمن يطوف عليها أنها بلد مستقل بذاته والنفقة عليها لا تحصى.
تولى ذلك بنفسه الشيخ الخبوشاني، وسلطان هذه الجهات: صلاح الدين يسمح له بذلك ويقول: زد احتفالاًَ وتأنقاً، وعلينا القيام بمؤونة ذلك، وذكر ابن جبير أنه حرص على لقاء الخبوشاني، لأن أمره كان مشهوراً بالأندلس، ولعل في إشارة ابن جبير ما يؤكد أن صلاح الدين كان يتخير أساتذة مدارسه من أهل العلم والفضل والصلاح، ومن بين من ظهرت شهرتهم في العالم الإسلامي، حتى تتحقق على أيديهم الأهداف التي يسعى إليها، وحتى يكونوا عنصر جذب لطلاب العلم من جميع أنحاء العالم الإسلامي.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.