;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة التاسعة والأربعون 936

2008-10-21 22:30:42

المؤلف/ علي محمد الصلابي

ثانياً: جهود الأيوبيين في الشام والجزيرة:

وهذه العناية الزائدة بحركة البعث السني في مصر لا تعني أن الأيوبيين أهملوا البلاد الأخرى التابعة لهم والتي لم تمر بظروف مصر، بل وجدناهم لا يألون جهداً في نشر الثقافة السنية في كل بلد يحلون به سواء في السلاطين، والأمراء من الرجال والنساء، والأعوان من الوزراء والقواد والعملاء والكتاب. .

وحرص كثير من هؤلاء على بناء المدارس وتشييدها في بلاد الشام والجزيرة: فصلاح الدين أنشأ مدرسة للشافعية بمدينة القدس وبنى مدرسة للمالكية بدمشق وجعل داره في دمشق عندما انتقل إلى مصر خانقاه للصوفية، وأنشأ تقي الدين عمر مدرسة بمدينة الرها، وأتم العزيز عثمان ابن صلاح الدين مدرسة بدمشق كان أخوه الأفضل قد شرع في عمارتها، وعرفت بالمدرسة العزيزية ، وشيد المعظم عيسى ابن العادل مدرسة للحنفية بدمشق عرفت بالمعظمية، وأوقف سيف الإسلام أخو صلاح الدين على الحنابلة مدرسة بدمشق وأقام الأشرف موسى ابن العادل دار الحديث الاشرافية بهذه المدينة، وأنشأ القاضي الفاضل دار الحديث الفاضلية قرب الجامع الأموي، وبنت ست الشام "أخت صلاح الدين" مدرسة للشافعية بدمشق، وكذلاك فعلت أختها ربيعة خاتون فبنت مدرسة وقفتها على الحنابلة بدمشق أيضاً، إلى غير ذلك من المدارس التي كثرت وانتشرت حتى إن عز الدين بن شداد عد منها في دمشق وحدها اثنتين وتسعين مدرسة، موزعة بين المذاهب السنية الأربعة، وذلك عدا من الأماكن الأخرى التي كانت تشغل في التعليم والدرس: كالجامع الأموي، وقد نقل ابن جبير - أيضاً - صورة عن الحياة العلمية في دمشق، وخاصة داخل مساجدها، ومشاهدها وذلك عندما زار هذه المدينة في عام"580ه/1184م" فيقول عن الجامع الأموي: وفيه حلقات للتدريس للطلبة،وللمدرسين فيه إجراء وساع وللمالكية زاوية للتدريس في الجانب الغربي، يجتمع فيها طلبة المغاربة، ولهم إجراء معلوم، ومرافق هذا الجامع المكرم للغرباء وأهل الطلب كثيرة واسعة ويقول عن المشاهد: ولك مشهد من هذه المشاهد أوقاف معينة من بساتين وأرض حتى إن البلد تكاد الأوقاف تستغرق جميع ما فيه وكل مسجد يستحدث بناؤه، أو مدرسة، أو خانقة " خانقاه" يعين لها السلطان أوقافاً تقوم بها وبساكنيها، والملتزمين لها. .

ومن النساء الخواتين ذوات الأقدار من تأمر ببناء مسجد أو رباط أو مدرسة، وتنفق فيها الأموال الواسعة، وتعين لها من مالها الأوقاف.

ومن الأمراء من يفعل مثل ذلك، لهم في هذه الطريق المباركة مسارعة مشكورة، وحظيت حلب هي الأخرى بقسط كبير من جهود الأيوبيين وأعوانهم، فأنشأ بها الظاهر غازي ابن صلاح الدين مدرسة مشتركة للشافعية والحنفية، وتولى النظر والتدريس بها القاضي بهاء الدين بن شداد الذي وكل إليه الظاهر النظر في أوقاف حلب كلها، وبنى ابن شداد المدرسة الصاحبية للشافعية، وبجوارها أقام داراً للحديث ظلت مجمعاً لأهل الحديث يسكنون بها، ويقرءون، ويسمعون ويكتبون حتى محنة التتار، ووقف عليها قرية من قرى حلب وبالقرب من هذه الدار بنى داراً للصوفية وبقيت حلب طيلة عهد الأيوبيين منارة للعلم، يقصدها الطلاب من أنحاء شتى بفضل الله ثم الجهود العلمية التي نهض بها ابن شداد، حيث اعتنى بترتيب أمورها، وجمع الفقهاء بها، فعمرت في أيامه المدارس الكثيرة وقصدها الفقهاء من البلاد المختلفة، وكثر الاشتغال بالعلم والإفادة منه، ويذكر ابن خلكان أنه التحق بالمدرسة التي أنشأها ابن شداد هو وأخوه، وكان ابن شداد يدرس فيها بنفسه، ويرتب معه أربعة من الفقهاء الفضلاء للإعادة، كما يشير ابن خلكان إلى أن العلماء بحلب في أيام ابن شداد كانت لهم حرمة تامة ورعاية كبيرة وخصوصاً جماعة مدرسته فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان، ويفطرون في رمضان على سماطه، وكان للقاضي عقب صلاة الجمعة درس في الحديث يسمعه المصلون، ويذكر ابن واصل أنه توجه إلى حلب في أواخر عام "627ه/1230م" ليدرس الفقه والأصول والنحو واللغة ويتبرك بلقاء ابن شداد، وكان نزوله بالمدرسة الصاحبية.

ثالثاً:عناصر الثقافة السنية في العهد الأيوبي:

كانت عناية صلاح الدين الأيوبي والسلاطين الذين جاؤوا بعده للتمكين لمذهب أهل السنة في البلاد التي حكموها عناية شاملة ومكثفة في المدن التابعة لهم، كالقاهرة والإسكندرية، ودمشق وحلب، وغيرها، ومن أهم عناصر الثقافة السنية التي اهتم بها الأيوبيون.

1- القرآن الكريم:

اهتم الأيوبيون بتلقين القرآن الكريم للصغار، وتحفيظهم إياه في البلاد التابعة لهم، فابن جبير يذكر:أن صلاح الدين أمر بعمارة أماكن متعددة في مصر، ورتب فيها معلمين للقرآن الكريم: يعلمون أبناء الفقراء والأيتام خاصة، وتجري عليهم الجراية الكافية لهم، ويصور القاضي بهاء الدين بن شداد مدى عناية صلاح الدين بالقرآن فيذكر أنه مر يوماً على طفل صغير يقرأ القرآن، فاستحسن قراءته، فقربه إليه وجعل له حظاً من خاص طعامه، ووقف عليه وعلى أبيه جزءاً من مزرعة.

وكان يشترط في إمامه أن يكون عالماً بعلوم القرآن، متقناً لحفظه، وقد مر بنا أن القاضي الفاضل جعل إلى جانب مدرسته لإقراء كتاباً وقفه على تعليم الأيتام القرآن الكريم، وأنه خصص إحدى قاعات هذه المدرسة لإقراء القرآن وتدريس علم القراءات، وعندما زار ابن جبير دمشق وجد الجامع الأموي لا يخلو من تلاوة القرآن الكريم لاصباحاً ولا مساءً، ولهؤلاء القراء إجراء يومي يعيش منه أكثر من خمسمائة إنسان وعند فراغ القراء من التلاوة الصباحية يجلس أمام كل منهم صبي يلقنه القرآن الكريم، وللصبيان على قراءاتهم جراية معلومة أيضاً تصل إليهم عدا أبناء ذوي اليسار، فإن آباءهم ينزهونهم عن أخذها، كما رأى ابن جبير مكاناً آخر بدمشق، يتعلم فيه الصبيان القرآن الكريم، وعليه وقف كبير يأخذ منه المعلمون ما يفي بحاجات الصبيان وكسوتهم وينفقونه عليهم، وكان علم القراءات يدرس بدار الحديث الإشرافية بدمشق، وبالمدرسة القاهرية بحلب.

2- الحديث الشريف:

واهتم الأيوبيون بالحديث الشريف اهتماماً عظيماً، وكان هذا الاهتمام تلبية لحاجتين ملحتين واجههما المجتمع الإسلامي في مصر والشام، إحداها: عام، والأخرى: خاصة ببعض البيئات.

أما العامة:

فهي أن المسلمين كانوا يواجهون عدواً يتربص بهم الدوائر، ويعبث بمقدساتهم، وكان الاهتمام بتحريض المؤمنين على قتالهم يتطلب عناية كبيرة بالحديث الشريف، وخاصة ما يتعلق منه بهذا الباب، لذا وجدنا صلاح الدين شغوفاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يردد معه أثناء زيارته للإسكندرية في عام "572ه/ 1176م" على الحافظ السلفي، وسمعوا منه الحديث الشريف، كما سمع هو وأولاده موطأ مالك الدين بن شداد صلاح الدين: بأنه كان شديد الرغبة في سماع الحديث وأنه كان يعسى إلى علمائه إذا كانوا ممن ينزهون أنفسهم عن حضور مجالس الحكام، ويستطرد ابن شداد قائلاً: أنه كان يحب أن يقرأ الحديث بنفسه، ويستحضرني في خلوته، ويحضر بعضاً من كتب الحديث ويقرؤها، وكان الرجل إذا اراد أن تقرب إليه حثه على الجهاد له فيه كتاباً، جمعت فيه آدابه، وكل آية وردت فيه، وكل حديث ورد في فضله، وكان رحمه اله كثيراً ما يطالعه حتى أخذه منه ولده الأفضل، ولم تكن العناية بالحديث مما اختص به صلاح الدين، بل إن كثيراً من أمراء الأيوبيين سعى إلى سماع الحديث وروايته، ومنهم تقي الدين عمر الذي سمع من السلفي بالإسكندرية، والملك الكامل الذي نهج سبيل نور الدين وأنشأ بمصر أول دار للحديث الشريف ووصفه السيوطي بأنه كان معظماً للسنة وأهلها، وأنه سمع من السلفي وأجازه، كما وصفه سبط ابن الجوزي بأنه كان يتكلم في صحيح مسلم بكلام مليح، أما الأشرف بن العادل فق سمع صحيح البخاري فيدار الحديث الأشرفية التي أنشأها بدمشق.

هذه الجهود التي نهض بها الأيوبيون للعناية بالحديث كانت استجابة لحاجه عامة تتعلق بمتطلبات الجهاد في سبيل الله والحض عليه، ورفع إمكانات المسلمين عن طريق تربيتهم، وتثقيفهم بعنصر هام من عناصر الثقافة السنية، وأما الحاجة الخاصة التي تطلبت مزيداً من الحفاوة بالحديث الشريف، فكانت تتعلق بالبيئات التي ساد فيها النفوذ الشيعي فترة من الزمن، ذلك أن الشيعة لا يصححون من الأحاديث إلا ما رواه أهل البيت فقط، وما ينسبونه إلى الكذبة، ويطعنون فيما سواه ويتخذون من ذلك وسيلة على الطعن في رواتها، ولذا كانت العناية بالحديث الشريف في مصر إحياء لهذا الجانب من جوانب الثقافة السنية.

3- أصول العقيدة السنية:

اهتم الأيوبيون بالمحافظة على أصول العقيدة على مذهب الإمام الأشعري، فقد كان رحمه الله من العلماء الذين حملوا لواء العلم في كل ميادينه وصنوفه، ويعد من العلماء الذين جمعوا بين شتى المعارف والعلوم والفنون قال عنه الذهبي: العلامة إمام المتكلمين أبو الحسن. .

وكان عجباً في الذكاء وقوة في الفهم، ولما برع في معرفة الاعتزال كره وتبرأ منه، وصعد للناس، فتاب إلى الله تعالى منه، ثم أخذ يرد على المعتزلة ويهتك عوراتهم وذكر الذهبي أيضاً: ولأبي الحسن ذكاء مفرط، وتبحر في العلم، وله أشياء حسنة وتصانيف جمة تقضي له بسعة العلم، ويقول: رأيت لأبي الحسن أربعة تواليف في الأصول يذكر فيها قواعد مذهب السلف في الصفات وقال فيها: تمر كما جاءت، ثم قال وبه ادين، ولا تؤول. <

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد ناصر حميدان

2025-01-18 00:17:31

وطن يصارع الضياع

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد