المؤلف/ علي محمد الصلابي
المبحث الثاني
فتح بيت المقدس
تعتبر "حطين" معركة حاسمة في تاريخ الحرب الإسلامية الصليبية، إذ فقدت مملكة بيت المقدس قواتها العسكرية الرئيسية في هذه المعركة، كما تم تدمير أكبر جيش صليبي أمكن جمعه منذ قيام الكيان الصليبي وأضحى القائد المنتصر في هذه المعركة، على الصليبيين: صاحب السيادة على العالم الإسلامي بأسره، وبعد حطين لم يعد للصليبيين في المملكة المقدسة خصوصاً قوة يتباهون بها، لذا، ما إن استسلمت عسقلان وغزة لصلاح الدين في أيلول/ سبتمبر من العام نفسه، حتى قرر صلاح الدين أن ينطلق بجيشه الذي أعاد جمعه من كل المنطقة في جنوب فلسطين، حيث كان قد نشره منذ سنوات ليستكمل توحيد بلاد الشام، وما إن اتجه بهذا الجيش شمالاً نحو القدس لفتحها عنوة وبالسيف، حتى بدأت مدينة القدس تستعد لمقارعة القائد المسلم الذي جاء يتحدى مناعتها وجبروتها بعد ثمانية وثمانين عاماً من احتلال الصليبيين لها.
أولاً استعدادات الصليبيين داخل بيت المقدس:
كان عدد المقاتلين الصليبيين في القدس "يزيد على ستين ألفاً" من الخيالة "عدا النساء والصبيان" حسبما ذكر "أبو شامة" في كتاب الروضتين.
ويبدو أن عدد سكان المدينة، وبالتالي عدد المقاتلين فيها قد ازداد بسبب توافد اللاجئين إليها من المدن والقرى الفلسطينية المجاورة، والتي تعرضت للأخطار خلال الحرب الإسلامية الصليبية، ويذكر "رنسيمان": أن معظم هؤلاء اللاجئين لم يكن يتقن فن القتال، وكان الرجال فيهم قلة ضئيلة إذ كان مقابل كل رجل "خمسين امرأة وطفلاً" ولم يكن في المدينة سوى "فارسين اثنين" مما حدا بباليان إلى أن "ينصب فارساً، كل صبي تجاوز السادسة عشر من عمره، وانحدر من أسرة نبيلة" ثم جند كل الذكور الذين بلغوا هذه السن، ووزع الأسلحة على كل من استطاع أن يحمل السلاح، ونشر المقاتلين على الأسوار وفي الحصون، ونصب المجانيق، وحفر الخنادق، يقول أبو شامة في ذلك: ونصبوا (الصليبيون) على كل نيق منجنيقاً، وحفروا في الخندق حفراً عميقاً، وشادوا في كل جانب ركناً وثيقاً، وفرقوا على كل برج فريقاً.
إلا أن ابن الأثير يخالف (رنسيمان) في عدد الفرسان الذين كانوا في القدس قبل تجنيد الصبية النبلاء وتنصيبهم فرساناً، فيذكر أنه كان في القدس "من خلص" من فرسان الصليبيين "في حطين" وأن خلقاً كبيراً اجتمعوا في المدينة، من أهل تلك النواحي، عسقلان وغيرها، وقد صعد الجميع على الأسواق بحدهم وحديدهم، حيث نصبوا المجانيق وحصنوا تلك الأسوار، بما وجدوا إليه سبيلاً.
ثانياً خطة صلاح الدين العسكرية:
1- الخطوات التي سبقت فتح القدس:
تجلت مقدرة صلاح الدين الحربية في تلك الخطة العسكرية التي اتبعها في جهاده ضد الصليبيين لاسترداد بيت المقدس، وقامت تلك الخطة على تكوين جبهة إسلامية موحدة تضم مصر وبلاد الشام وأجزاء من العراق، ثم منازلة الصليبيين في عقر دارهم، وإنزال ضربة قوية بهم، كما حدث في معركة حطين.
وتلا ذلك مسيرة إلى مدن الساحل الشامي لإضعاف الصليبيين مادياً ومعنوياً.
ولو اتجه صلاح الدين عقب انتصاره في حطين إلى بيت المقدس لتمكن من دخوله بدون عناء، إلا أن استيلاءه على بيت المقدس قبل السيطرة على مدن الساحل لن يضمن له الاستقرار التام في بيت المقدس، إذ كان من المتوقع قيام الغرب الأوروبي بإرسال الجيوش الصليبية إلى موانئ الشام، ومجيء فرسانه زرافات ووحداناً، والدخول مع صلاح الدين في معارك حامية لاسترداد بيت المقدس الذي به كنيسة القيامة لاعتقادهم الباطل كما يقول العماد الأصفهاني أن: فيها صلب المسيح، وقرب الذبيح وتجسد اللاهوت، وتأله الناسوت وقام الصليب، وبفضل الله ثم تلك الخطة العسكرية التي نفذها صلاح الدين بسيطرته على الشريط الساحلي، عزل بيت المقدس ومنع وصول الإمدادات إليه وقطع كل أمل للصليبيين سواء في الغرب الأوروبي أو في بلاد الشام في الوصول إلى بيت المقدس، وإنقاذه من جيوش المسلمين، ولما استرد صلاح الدين من الصليبيين عسقلان وغيرها من البلاد، المحيطة ببيت المقدس، وضمن بذلك إحكام العزلة على مملكة بيت المقدس، شمر عن ساق الجد والاجتهاد وعزم على قصد بيت المقدس، فأصدر أوامره واجتمعت عليه جميع العساكر الإسلامية التي كانت متفرقة في الساحل.
2- البعد الإعلامي:
كانت تلك الحشود العسكرية الإسلامية قد شاركت صلاح الدين في معركة حطين، واستغل صلاح الدين تواجدها في الشام قبل عودتها إلى إقطاعاتها في السيطرة على مدن وموانئ الساحل، وحرص صلاح الدين على أن يسبق مسيره إلى بيت المقدس حملة إعلامية إلى كافة أطراف العالم الإسلامي بقصد استنفار المسلمين للجهاد، الأمر الذي ثارت معه عزائم المسلمين بالعزم على الجهاد والاشتراك في تطهير تلك البقعة المقدسة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وذكر أبو شامة وابن كثير أن المسلمين ما إن بلغهم ما من الله به على صلاح الدين من فتوح الساحل الشامي، ومن ثم قصده المسير إلى بيت المقدس، حتى توافدوا عليه، من كل مكان يتقدمهم العلماء والفقهاء، الذين قدموا للتطوع في الجهاد لتصفية الوجود الصليبي من بلاد الشام.
3- استدعاء القوات المصرية:
ومن ناحية أخرى فقد استدعى صلاح الدين القوات المصرية أثناء قيامه بالاستيلاء على الساحل لمساعدته في الاستيلاء على المدن والقلاع الجنوبية، واجتمع بابنه الملك العزيز عثمان في عسقلان فقرت به عينه واعتضد بعضده، ويبدو أن صلاح الدين على الرغم من سيطرته التامة على مدن وموانئ الساحل الشامي كان يتخوف من هجوم صليبي من الغرب، أثناء تقدمه إلى بيت المقدس، لذلك أمر الأساطيل المنصورة بالمسير للمشاركة في الجهاد، فسارت إليه من مصر يتقدمها الحاجب لؤلؤ وأخذت تجوب البحر وتقطع الطريق على سفن الصليبيين ومراكبهم، في الوقت الذي كانت فيه الإمدادات تصل من مصر إلى الشام براً وبحراً بكل سهولة، وعندما علم صلاح الدين بأن مدينة بيت المقدس قد أخذت قسطاً وافراً من التحصين، لما تتمتع به مكانة عظيمة في نفوس الصليبيين، حرص على إحضار أدوات الحصار الكافية لاقتحام أسوارها ذات الأبراج العالية، فأحضر معه المنجنيقات والعرادات والنفاطات والقطاعات وعدد النقوب وغيرها من الأدوات اللازمة لدك الأسوار ونقبها ثم حشو تلك النقوب بالحطب والنفط وإشعال النيران فيها، لفتح ثغرات في الأسوار يمكن من خلالها اقتحام الأسوار ودخول المدينة.
4- الحصار والقتال:
كان الصليبيون قد بدأوا القتال قبل تمركز جيش المسلمين حول أسوار المدينة، أي قبل 20 أيلول وذلك عندما تقدمت مفرزة من طليعة الجيش الإسلامي نحو الأسوار بقيادة الأمير جمال الدين شروين بن حسن الرازي فخرجت إليها مفرزة من حامية المدينة فقاتلتها وهزمتها، وقتلت أميرها، وقد حدث هذا قبل أن يتمركز صلاح الدين بجيشه في الجانب الغربي من السور، ومهما يكن من أمر فقد بدأ صلاح الدين قتاله الفعلي ضد العدو المتحصن داخل أسوار المدينة في صباح 26 أيلول سبتمبر 1187م، 21 رجب 583ه فتقدم بجيشه نحو الأسوار بغطاء كثيف من المدفعية التي كانت سائدة في ذلك العصر "وهي المجانيق" وكان عددها 12 منجنيقاً كبيراً ترمي الحجارة الكبيرة، وتقدم تحت هذا الغطاء أيضاً، النقابون الذين بدأوا ينقبون في السور ودار القتال عنيفاً بين الفريقين: حامية المدينة تحاول أن تنال من المسلمين، وتوقف تقدمهم، بسهامها ونبالها، ومجانيقها من على الأسوار، ومن التحصينات وهي تقاتل بعنف وضراوة لا مثيل لهما، بينما كان فرسانها يخرجون إلى ظاهر البلد يقاتلون ويبارزون، إلا أن ذلك لم يكن ليثني المسلمين عن تقدمهم ونقبهم للأسوار وتدميرها وتدمير التحصينات بمجانيقهم وقد قتل في هذه المعركة من الفريقين الكثير، وممن قتل: الأمير عز الدين عيسى بن مالك وكان والده صاحب قلعة جعبر، واستمر القتال عنيفاً بعد ذلك، ويصف "غروسيه" المعركة التي دارت عند أسوار المدينة بأنها كانت من الضراوة، ما لم يسمع بمثله، كما كانت عطشاً حقيقياً للشهادة.
وهو يستطرد: لقد كانت: المعارك الأكثر ضراوة، كما لم يشهده إنسان، فكل رجل من الجيشين كان ينظر إلى الصراع كفعل ديني والتزام حتمي.
وقد كان تفوق صلاح الدين في المدفعية إلى درجة أن سقوط المدينة كان حتمياً، وأن النقابين العاملين تحت غطاء من حجارة المجانيق نجحوا في فتح ثغرة في جدار السور، وقرر الفرسان والنبلاد الصليبيون القيام بهجوم انتحاري على المسلمين خارج الأسوار إلا أن بطريقهم "هرقل" ردعهم عن ذلك بعد أن أقنعهم أن "عملهم البطولي" هذا لن يكون سوى التخلي عن النساء والأطفال للعدو بلا دفاع.
5- الهجوم الحاسم:
بعد هذا القتال العنيف قرر صلاح الدين أن يشن هجوماً حاسماً على المدينة وكثف رمايات المجانيق، مغطياً تقدم المهاجمين بحجارتها، وسيل من السهام والنبال يطلقها الرماة نحو المدافعين عن السور والحصون لكي تشل مقاومتهم، مما جعل أولئك المدافعين يتراجعون عن مراكزهم، بينما تقدم المسلمون واجتازوا الخندق الخارجي المحفور حول السور ثم التصقوا وعملوا به نقباً وتهديماً واشتد قصف المجانيق وتوالى رمي السهام والنبال من الرماة المتقدمين خلف المهاجمين يحمونهم، ونجح المهاجمون في فتح ثغرات عديدة في السور الذي أوشك أن يصبح ملكاً للمهاجمين، وفي وقت ما من تاريخ 29 أيلول/ سبتمبر استطاع المهاجمون فتح "ثغرة كبيرة" في السور نفذ منها المسلمون ورفعوا راياتهم عليه، إلا أن المدافعين ما لبثوا أن احتشدوا وردوا المسلمين عن السور، ورغم ذلك فقد أيقن المدافعون أن لا جدوى من دفاعهم، وأنهم مشرفون على الهلاك، بل إنهم هالكون حتماً إن هم استمروا في عنادهم، وتزاحم الناس في الكنائس للصلاة والاعتراف بذنوبهم، وأخذوا يضربون أنفسهم بالحجارة ويرجون المدد والرحمة من الله، وقطعت النساء شعور بناتهم على أمل استثارة الرجال لحمايتهن من سبي المسلمين لهن.