;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس .. الحلقة الثالثة والتسعون 761

2008-12-18 03:56:51

المؤلف/ علي محمد الصلابي

6- المفاوضات وتسليم القدس إلى صلاح الدين:

اتفق الصليبيون على إرسال الرسل بطلب الآمال مقابل تسليم المدينة لصلاح الدين وامتنع صلاح الدين عن إجابتهم إلى ذلك وقال: لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بأهله حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي وجزاء السيئة بمثلها، فلما أعاد صلاح الدين رسل الصليبيين خائبين محرومين اجتمع الصليبيون مرة أخرى داخل بيت المقدس وحاولوا القيام بهجمات مفاجئة ضد المسلمين ولكن البطريرك هرقل اعترض على ذلك وأوضح لهم أنهم لو فعلوا ذلك فإنهم سيسوقون نساءهم وأطفالهم إلى العبودية، وحرضهم على طلب الأمان من صلاح الدين، فأرسل باليان دي إبلين إلى صلاح الدين طالباً الأمان لنفسه، ليحضر عنده للتفاوض فأجابه صلاح الدين إلى ذلك وحضر باليان عنده وسأله الأمان للصليبيين،فأصر صلاح الدين على فتح المدينة بالسيف، فلما يئس باليان من ذلك أراد أن يستثير عطف صلاح الدين بالتهديد بقتل النساء والأطفال وأسرى المسلمين، حيث قال له: أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة خلق كثير لا يعلمه إلا الله وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ظناً منهم أنك تجيبهم إليه، كما أجبت غيرهم، وهم يكرهون الموت ويرغبون في الحياة فإذا رأينا أنه لا بد منه فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا ولنحرقن أموالنا وأمتعتنا ولا نترككم تغنمون منها ديناراً واحداً ولا درهماً، ولاتسبون وتأسرون رجلاً ولا امرأة.

وإذا فرغنا من ذلك أخرجنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرها من المواضع ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير، ولانترك الرجل حتى يقتل أمثاله ونموت أعزاء ونظفر كراماً واستشار صلاح الدين أصحابه فأوضحوا له أنه يكفي للبر بقسمه أن يستولي على بيت المقدس بحد السيف أن تستسلم المدينة بشروط كأنها سقطت بالقتال، وفي هذه الحالة يعتبر سكان المدينة أسرى حرب، فأجابهم صلاح الدين إلى الأمان مقابل تسليم بيت المقدس ووافق على مغادرة الصليبيين المدينة مقابل فداء يدفعونه، فجعل على الرجل عشرة دنانير يستوي في ذلك الغني والفقير وعلى المرأة خمسة دنانير.

ويضيف كل من سبط ابن الجوزي والعماد الحنبلي أن صلاح الدين جعل على الصبي أربعة دنانير أما بالنسبة للطفل فقد اختلف فيما فرض عليه فذهب البعض إلى أن فديته دينار واحد في حين يرى البعض الآخر أن فديته ديناران، ويبدو أن الرأي الأول أرجح بدليل إجماع المراجع الصليبية على ذلك.

أما الفقراء والمعدمون فقد وافق صلاح الدين على أن يدفع باليان مقابل إطلاق سراحهم، مبلغاً إجمالياً قدره ثلاثون ألف دينار وحدد صلاح الدين لباليان مدة أربعين يوماً فمن أدى فديته خلالها أطلق سراحه، ومن بقي بعدها صار مملوكاً، وسلمت المدينة يوم الجمعة 27 رجب 583/ 12 اكتوبر 1187م وذكر أبو شامة نقلاً عن العماد في البرق الشامي أن الصليبيين عقب توقيع اتفاقية التسليم، شرعوا في إخلاء البيوت، وبيع ما ادخروا من الأثاث والأقوات بأرخص الأثمان، وكان خروجهم شبيهاً بالمجان لا سيما ما تعذر نقله وصعب حمله، وكانوا كما قال الله تعالى: "كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوماً آخرين".

ثالثاً: دخول صلاح الدين بيت المقدس:

تم الاتفاق بين صلاح الدين وباليان على تسليم المدينة وفقاً للشروط التي ذكرنا، ودخلها صلاح الدين: يوم الجمعة في 27 رجب 583ه وذلك بعد أن أعطى باليان الأوامر لحاميتها بإلقاء السلاح والاستسلام لجند المسلمين، وكان يوماً مشهوداً ورفعت الأعلام الإسلامية على أسوار المدينة المقدسة، وقد استمر حصار صلاح الدين للمدينة اثنى عشر يوماً، وبسقوط القدس، انهارت أمام صلاح الدين معظم المدن والمواقع التي كانت لا تزال تحت سيطرة الصليبيين في معظم أنحاء بلاد الشام، ودخل صلاح الدين القدس في 27 رجب وكانت ليلة الإسراء فأمر بأن يوضع على كل باب من أبواب المدينة أمير من أمراء الجيش لكي يتسلم الفدية من الصليبيين الخارجين من المدينة ويحتسبها وكان في المدينة ستون ألف رجل ما بين فارس وراجل، سوى من يتبعهم من النساء والوالدان ويستطرد ابن الأثير: ولا يعجب السامع من ذلك فإن البلد كبير واجتمع إليه من تلك النواحي من عسقلان وغيرها والداروم ورملة وغزة وغيرها من القرى، بحيث امتلأت الطرق والكنائس، وكان الإنسان لا يقدر أن يمشي.

وأما صلاح الدين فإنه بعد أن استقر له الحكم في المدينة المقدسة، أمر بإعادتها إلى ما كانت عليه قبل احتلالها من الصليبيين، وكان هؤلاء قد أقدموا على تغيير الكثير من المعالم الإسلامية للمدينة فزرعوا صليباً كبيراً مذهباً على رأس قبة الصخرة، وأمر صلاح الدين بكشفها، وكان فرسان الداوية قد بنوا مباني لهم غرب المسجد الأقصى لكي يسكنوها، وأنشأوا فيها "هري ومستراح وغير ذلك" وأدخلوا قسماً من هذا المسجد في أبنيتهم فأمر صلاح الدين بإعادة الأبنية إلى حالها القديم كما أمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار والأنجاس، ثم عين إماماً للمسجد الأقصى وأقام فيه منبراً، ومحا ما كان فيه وفي الأبنية المجاورة من صور كان الصليبيون قد وضعوها أو رسموها، وأعاد المسيحيين الوطنيين من أهل القدس إلى مساكنهم كما سمح لهم بشراء ما أراد الفرنج بيعه من ممتلكات ومتاع وأموال.

1- لم يعرف التاريخ فاتحاً أرحم من المسلمين:

ووفى صلاح الدين بوعده فسمح لمن دفع القطيعة بالخروج وكان قد رتب على كل باب أميراً مقدماً كبيراً يحصر الخارجين، فمن دفع الفدية فقد خرج.

وبالرغم من تلك القطيعة الزهيدة التي فرضها صلاح الدين مقابل خروجهم من بيت المقدس، وتأمين وصولهم إلى مأمنهم، فإن كثرة كثيرة منهم، لم يستطع دفعها فداء لنفسه، وأصبح بعد مضي أربعين يوماً أسيراً في أيدي المسلمين، ولم يسهم أحد من أغنياء الصليبيين في فداء فقرائهم، فقد خرج البطريرك هرقل من بيت المقدس بخزائنه الضخمة دون النظر إلى غيره، ويبدو أن ذلك كان سبب انعدام الروابط الأسرية وغيرها بين الصليبيين في ذلك الوقت، فالأسرى كانوا خليطاً من أجناس وشعوب أوروبية متباينة، وأجناد الغرباء المأجورين الذين رغبوا في السفر إلى الشرق تخلصاً من رق الأرض السائد وقتذاك في المجتمع الأوروبي.

والخلاصة أن ذلك الموقف المخزي من كبار الصليبيين، وتلك الشهامة وذلك التسامح من صلاح الدين قد أجبر الكاتب الإنجليزي لين بول على إبداء إعجابه بصلاح الدين حيث قال بعد أن تهجم على البطريرك: "إنها كانت فرصة للملك المسلم أن يعلم المسيحيين معنى التسامح" وقد برهن صلاح الدين وغيره من أمراء المسلمين على تلك الشهامة والتسامح عندما أصبح آلاف المدنيين الصليبيين الذين عجزوا عن دفع الفدية المقررة أسرى في يد صلاح الدين، فبعث الملك العادل إلى أخيه السلطان صلاح الدين يطلب منه أن يهب له ألفاً من أولئك الصليبيين الفقراء ليطلق سراحهم لوجه الله، وأجابه صلاح الدين إلى ذلك وحرك ذلك العمل الإنساني الذي قام به الملك العادل مشاعر البطريرك وباليان فتقدما إلى صلاح الدين وأمر حراسه بالمناداة في شوارع بيت المقدس، بأنه سوف يطلق سراح من لم يستطع دفع الفدية من الصليبيين لكبر سنه وأن على هذه الطائفة أن تتقدم من الباب الخلفي للمدينة يسمح لها بالخروج من طلوع الشمس إلى الليل.

وما إن صدر ذلك الإعلان حتى توافد الصليبيون على ذلك الباب بأعداد لا تحصى وطلب أمير البيرة إطلاق سراح زهاء خمسمائة أرمني، ذكر لصلاح الدين أنهم من بلده، وإن قدومهم إلى بيت المقدس كان من أجل العبادة هناك، كما طلب أيضاً الأمير مظفر الدين علي كوجك إطلاق سراح زهاء ألف أرمني ادعى أنهم من الرها، فأجابهم صلاح الدين إلى ذلك وأطلق سراحهم، ولم يقتصر ذلك التسامح من المسلمين على ما قام به صلاح الدين وأخوه الملك العادل وكبار الأمراء المسلمين، بل تعدى ذلك إلى عامة المسلمين، والواقع أن صلاح الدين قد أبدى من التسامح وكرم الأخلاق تجاه أسرى الصليبيين في بيت المقدس الشيء الكثير.

وبلغ من كرم وشهامة صلاح الدين بما قام به تجاه زوجات وبنات الفرسان الصليبيين، الذين قتلوا وأسروا أثناء معاركهم مع صلاح الدين.

فقد تجمعن أمام صلاح الدين يبكين فسأل عن حالهم وما يطلبن، فقيل له أنهن يطلبن الرحمة، فعطف عليهم صلاح الدين وسمح لمن كان زوجها على قيد الحياة بأن تتعرف عليه وأطلق سراحه وسمح لهم بالذهاب حيث يريدون، أما النساء والبنات اللاتي مات أزواجهن وآباؤهن فقد أمر صلاح الدين بأن يصرف لهن من خزانته الخاصة ما يناسب عيشتهن ومركزهن وأعطاهن حتى ابتهلت ألسنتهن بالدعاء له.

أ - ملكة رومية متعبدة:

كانت بالقدس ملكة رومية متعبدة مترهبة في عبادة الصليب متصلبة، وعلى مصابها متلهبة وفي التمسك بملتها متصعبة متعصبة أنفاسها متصاعدة للحزن، وعبراتها متحدرة تحدر القطرات من المزن، ولها حال ومال ومتاع، وأشياء وأشياع وأتباع فعاذت بالسلطان فأعاذها ومن عليها وعلى كل من معها بالإفراج، وأذن في إخراج كل مالها في الأكياس والأخراج، وأبقى عليها مصوغات وصلبانها الذهبية المجوهرة ونفائسها، وكرائم خزائنها فخرجت بجميع مالها وحالها ونسائها ورجالها وأسفاطها وأعدالها والصناديق بأقفالها وتبعها من لم يكن من أتباعها فراحت فرحى وإن كانت من شجنها قرحى.

ب - زوجة ملك مأسور:

خرجت زوجة الملك المأسور كي، وهي ابنة أماري وكانت مقيمة في جوار القدس مع ما لها من الخول والخدم والجواري فاستأذنت في الإلمام بزوجها وكان بقيده مقيماً في برج نابلس موكلاً به ليوم تسريحه فأذن لها فخلصت هي ومن تبعها وأقامت عند زوجها.

ج- الإبرنساسة أم هنفري:

خرجت الإبرنساسة أم هنفري وهي ابنة فليب وزوجة الإبرنس الذي سفك دمه يوم حطين وهي صاحبة الكرك والشوبك وهي بنوابها محوطة وبرأيها منوطة، فجاءت سائلة في ولدها العاني، فوعدت أنها إن سمحت بحصنها سمح لها بابنها، ثم أعفيت وأطلقت وعصمت واستحضر ابنها هنفري بن هنفري من دمشق إليها، وأقر برؤيته عينيها، وسار معها من الأمراء والأمناء من تسلم منهم تلك المعاقل، فمضت إلى حصونها لتسلمها، فمانعها أهلها ودافعوها، وردوها ذليلة خائبة فسكنت صور، واستودعت السلطان ابنها المأسور، ووعدها بإطلاقه إذا تسلم تلك الحصون.

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد ناصر حميدان

2025-01-18 00:17:31

وطن يصارع الضياع

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد