;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس .. الحلقة السادسة والتسعون 928

2008-12-22 03:59:29

المؤلف/ علي محمد الصلابي

خامساً: منبر نور الدين في بيت المقدس:

وكان الملك العادل نور الدين محمود زنكي رحمه الله في عهده عرف بنور فراسته فتح بيت المقدس من بعده، فأمر في حلب باتخاذ منبر للقدس، تعب النجارون والصناع والمهندسون فيه سنيناً وأبدعوا في تركيبه الإحكام والتزيين، وأنفق في إبداع محاسنه وإبداء مزاينه ألوفاً، وكان لترديد النظر فيه على الأيام ألوفاً، وبقي ذلك المنبر بجامع حلب منصوباً، سيفاً في صوان الحفظ مقروباً، حتى أمر السلطان في هذا الوقت بالوفاء بالنذر النوري، ونقل المنبر إلى موضعه القدسي، فعرفت بذلك كرامات نور الدين التي أشرق نورها بعده سنين، وكان من المحسنين الذين قال الله فيهم: "والله يحب المحسنين"، وفي رواية للعماد الأصفهاني: ولم يزل لنور الدين في قلبه من الدين نور، وأثر تقواه للمتقين مأثور، أزهد العباد وأعبد الزهاد، ومن الأولياء الأبرار والأتقياء الأخيار، وقد نظر بنور الفراسة أن الفتح قريب وأن الله لدعائه ولو بعد وفاته مجيب، ويزيده قوة عزمه جداً وتمده بحياة الربانية مداً، قد طهره الله من العيب، وأطلعه على سر الغيب، ونزهه من الريب لنقاء الجيب وشملت الإسلام بعده بركته وختمت بافتتاح ملك صلاح الدين مملكته، وهو الذي رباه ولباه وأحبه وحباه، وهو الذي سن الفتح وسن النجاح واتفق أن جامع حلب في الأيام النورية احترق، فاحتيج إلى منبر ينصب فنصب ذلك المنبر، وحسن المنظر، وتولى حينئذ النجار عمل المحراب على الرقم، وشابه المحراب المنبر في الرسم، ومن رأى حلب الآن شاهد منه على مثال المنبر القدسي الإحسان ولما فتح السلطان القدس تقدم بحمله وصح به في محراب الأقصى اجتماع شمله، وظهر سر الكرامة في فوز الإسلام بالسلامة، وتناصرت الألسن بالدعاء لنور الدين بالرحمة ولصلاح الدين بالنصرة والنعمة.

ويدل هذا العمل على مدى إخلاص صلاح الدين لنور الدين محمود زنكي الذي بذل الكثير لتحقيق الوحدة الإسلامية، تمهيداً لاقتلاع الوجود الصليبي في بلاد الشام، كما أن ذلك يدل على أن صلاح الدين عندما قضى على دولة الزنكيين التي سادها الضعف والوهن عقب وفاة نور الدين محمود وتولي ابنه الصغير الملك الصالح اسماعيل، لم يكن يقصد بذلك سوى مواصلة المسيرة والاستعداد للجهاد ضد الصليبيين لإزالتهم واسترداد بيت المقدس.

سادساً: إصلاحات صلاح الدين في بيت المقدس:

قام صلاح الدين بإزالة ما استحدثه الصليبيون من الأبنية والأسوار في بيت المقدس، فقد أقام فرسان الداوية غربي المسجد الأقصى أبنية للسكنى، وأدخلوا بعض الأقصى في أبنيتهم، وبنوا على وجه المحراب جداراً وتركوه مخزناً للغلة، وقيل: اتخذوه مستراحاً قاصدين بذلك طعن الإسلام والمسلمين، كما بنوا على الصخرة في بيت المقدس كنيسة وستروها بالأبنية، وملؤوها بالصور ونصبوا عليها مذبحاً، وعينوا بها مواضع الرهبان كما أقاموا على رأس قبة الصخرة صليباً كبيراً وغير ذلك حتى غيروا معالمها.

وقام الطامعون منهم بقطع قطع منها وبيعها في أسواق القسطنطينية، وجزيرة صقلية بوزنها ذهباً فلما كان يوم الجمعة سبط شعبان 583ه/ 9 اكتوبر 1187م وهي الجمعة التالية للجمعة التي دخل فيها المسلمون بيت المقدس، أمر صلاح الدين بإزالة ما استحدثه الصليبيون من الأبنية والأسوار وكشف الجدار الساتر للمحراب، كما أمر بإزالة ما استحدثوه على قبة الصخرة المقدسة من مبان وصور، ثم أمر الفقيه ضياء الدين الهكاري بأن يكون أميناً عليها وأدار عليها شبابيك من حديد، أما بالنسبة للصليب الذهبي الذي أقامه الصليبيون على قبة الصخرة فيذكر ابن واصل أن المسلمين ما إن دخلوا البلد حتى تسلق جماعة منهم إلى أعلى القبة واقتلعوا الصليب الذي سقط، وعند ذلك صاح الناس كلهم صوتاً واحداً، من البلد ومن ظاهره.

المسلمون والفرنج، أما المسلمون فكبروا فرحاً، وأما الفرنج فصاحوا توجعاً وتفجعاً.

ولما فرغ صلاح الدين من إزالة ما استحدثه الصليبيون داخل بيت المقدس بدأ بعمارة المسجد الأقصى، فبذل جهداً كبيراً في تحسينه وترصيفه وتدقيق نقوشه، فأحضر له من الرخام ما لا يوجد مثله ومن الفص المذهب القسطنطيني وغير ذلك من المواد لتزيين مالا يمكن وصفه، وشرع في عمارته، وتزيينه وإزالة ما على جدرانه من الصور والتماثيل، وخص صلاح الدين المحراب باهتمام كبير، فعمل على ترخيمه وتزيينه وتقدم السلطان في المسجد الأقصى ببسط العراص وإخلائها لأهل الإخلاص، وتنظيفها من الأدناس، وكنس ما في أرجائها من الأرجاس، وأحضر الملك المظفر تقي الدين عمر إلى قبة الصخرة أحمالاً من ماء الورد وتولى بيده كنس ساحتها وعراصها، ثم غسلها بالماء مراراً حتى تطهرت، ثم أفاض عليها ماء الورد، وطهر حيطانها وغسل جدرانها، ثم بخرها بمجامر الطيب وجاء الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين، بكل نور جلي وكرم ملي، وبسط بها الضيعة، وفرش فيها البسط الرفيعة، كما قام المسلمون بكنس عراص المسجد وتنظيفها ثم فرضها بالبسط عوض الحصر والبواري، وعلقت القناديل وصفت السجادات وبعد أن أنهى صلاح الدين تطهير بيت المقدس مما علق به من آثار الصليبيين، رتب في المسجد الأقصى وقبة الصخرة وغيرها من المساجد داخل بيت المقدس الخطباء والأئمة والمؤذنين والقومة، وأحضر إليها المصاحف والربعات، كما قام صلاح الدين بإنشاء المدارس والأربطة فجعل الكنيسة مدرسة للفقهاء الشافعية، وعين دار البطريك رباطاً للفقراء وأوقف على ذلك أوقافاً جليلة، وكان لاسترجاع صلاح الدين لبيت المقدس من أيدي الصليبيين أهمية خاصة بالنسبة لصلاح الدين ومكانة بين أبطال المسلمين حتى أنه يمكن القول أنه إذا كان الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد طهر بيت المقدس من براثن الروم في السنة الخامسة عشر للهجرة فإن صلاح الدين أعاد تلك الذكرى في القرن السادس الهجري بعد أن تعرض بيت المقدس لذلك الاعتداء الصليبي الذي استمر ما يقارب المائة عام ووضع صلاح الدين بذلك العمل الجليل الأساس لمن بعده من سلاطين المسلمين للقضاء على بقايا الصليبيين في بلاد الشام.

سابعاً: إرسال البشائر والوفود إلى أنحاء العالم الإسلامي:

وصل صلاح الدين باسترداد بيت المقدس إلى قمة المجد السياسي والعسكري وأخذت أخبار ذلك الحدث تنتشر في أنحاء العالم الإسلامي، فقد سارع صلاح الدين بإرسال البشائر باسترداد بيت المقدس إلى الخليفة العباسي في بغداد وإلى مختلف الأمراء والحكام المسلمين، وذكر أبو شامة نقلاً عن العماد الأصفهاني الذي لم يحضر الفتح لمرض ألم به، أنه لما سمع وهو بدمشق نزول السلطان صلاح الدين على بيت المقدس شفي من مرضه، وتوجه إليه، فوصل عنده يوم السبت ثاني يوم الفتح، يقول العماد: وطلعت عليه صبحاً، فاستبشر بقدومي وخلع على البشير قبل رؤيتي وكان أصحابه يطالبونه بكتب البشائر ليغربوا بها ويشرقوا وهو يقول لهم لهذه القوس بار، ولهذه المأدبة قار، قال فكتبت في ذلك اليوم سبعين بشارة، كل كتاب بمعنى بديع وعبارة، فمنها الكتاب إلى الديوان العزيز ببغداد افتتحته بهذه الآية: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا".

كما أرسل أيضاً إلى الإمبراطور البيزنطي إسحاق أنجليوس يبشره بذلك النصر العظيم واستقبل صلاح الدين رسل ووفود الملوك والأمراء المسلمين من سلاجقة الروم وخراسان والعراق لتهنئته بما خصه الله به من نصر عظيم، كما أن المسلمين عندما سمعوا باسترداد بيت المقدس، وفدوا للزيارة: من كل فج عميق وسلكوا إليه في كل طريق وأحرموا من البيت المقدس إلى البيت العتيق.

وجلس صلاح الدين بالمخيم ظاهر بيت المقدس للقاء الأكابر والأمراء والعلماء الذين أتوه من كل حدب وصوب لزيارة بيت المقدس، وتهنئته بما أفرده الله به من الفضيلة باسترداد بيت المقدس من الصليبيين.

ثامناً: اختلاف صلاح الدين مع الخليفة العباسي:

لقد بلي صلاح الدين، في شخص الخليفة الناصر، بخليفة قوي الشخصية يغار على المظاهر والألقاب أكثر من أي شيء آخر، ذلك أنه على الرغم من أن الناصر أرسل عندما أصبح خليفة تقليداً جامعاً لصلاح الدين إلا أنه بعد برهة أرسل له رسالة عن طريق وزيره يعاتبه على أمور بلغته.

وقد لخص ابن كثير الخلاف بين الخليفة الناصر والسلطان صلاح الدين بقوله:. . . وكتب الخليفة يعتب عليه في أشياء منها؛ أنه بعث في بشارة الفتح بحطين مع شاب بغدادي كان وضيعاً عندهم، لا قدر له ولا قيمة، وأرسل بفتح القدس الشريف مع نجاب ولقب نفسه بالملك الناصر مضاهاة للخليفة الناصر، فتلقى الرسول بالبشر واللطف ولم يظهر له إلا السمع والطاعة، وأرسل يعتذر مما وقع بأن الحرب كانت قد شغلته عن التروي في كثير من الأمور، وأما لقبه بالناصر فهو من أيام الخليفة المستضيء ومع هذا فمهما لقبني به أمير المؤمنين فهو لا يعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب رحمه الله تعالى.

تاسعاً: حضور العلماء في فتوحات صلاح الدين:

كان العلماء والفقهاء مع صلاح الدين ولاقى التأييد التام من جموعهم، وقد بدأ صلاح الدين فتوحاته بعد حطين بفتح عكا يوم الجمعة الثاني من جمادي الآخرة سنة (583ه/ 1187م) لأنها طريق الموصل إلى بيت المقدس من ناحية، وحتى يضمن بفتحها قطع الإمدادات التي تصل عن طريقها من أوروبا إلى الصليبين ببيت المقدس من ناحية أخرى، وقد شارك في هذا الفتح عديد من الفقهاء والعلماء يأتي في مقدمتهم القاضي الفاضل، والفقيه جمال الدين عبداللطيف بن الشيخ أبي النجيب السهروردي، والفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري، فبعد أن تم لصلاح الدين فتح مدينة عكا قام القاضي الفاضل بتحويل الكنيسة العظمى بها إلى مسجد جامع، وأمر ببناء القبلة والمنبر ثم أقيمت به صلاة الجمعة، ويذكر ابن الأثير في هذا الصدد أنها: أول جمعة أقيمت بالساحل الشامي بعد أن ملكه الفرنج، وقد تولى آنذاك الفقيه جمال الدين عبداللطيف بن الشيخ أبي النجيب السهروردي أمر الخطبة والإمامة، ثم أسند إليه صلاح الدين بعد ذلك مناصب الخطابة والقضاء والحسبة والوقوف في مدينة عكا، وأما الفقيه عيسى الهكاري فقد كان ملازماً لصلاح الدين في غزواته وفتوحاته، ولهذا فقد خصص له السلطان بعد فتح عكا كل ما يتعلق بجماعة الفرسان الداوية من منازل وضياع، ومواضع ورباع، فأخذها بما فيها من غلال ومتاع تكريماً له واعترافاً بمكانته ومشاركته في الجهاد ضد الصليبيين وتشجيعاً لاستمراره في البذل والعطاء لهذه الفريضة. <

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد ناصر حميدان

2025-01-18 00:17:31

وطن يصارع الضياع

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد