;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس .. الحلقة السابعة والتسعون 1359

2008-12-23 04:00:55

المؤلف/ علي محمد الصلابي

تاسعاً: حضور العلماء في فتوحات صلاح الدين:

كان العلماء والفقهاء مع صلاح الدين ولاقى التأييد التام من جموعهم، وقد بدأ صلاح الدين فتوحاته بعد حطين بفتح عكا يوم الجمعة الثاني من جمادي الآخرة سنة (583ه/ 1187م) لأنها طريق الموصل إلى بيت المقدس من ناحية، وحتى يضمن بفتحها قطع الإمدادات التي تصل عن طريقها من أوروبا إلى الصليبيين ببيت المقدس من ناحية أخرى، وقد شارك في هذا الفتح عديد من الفقهاء والعلماء يأتي في مقدمتهم القاضي الفاضل، والفقيه جمال الدين عبداللطيف بن الشيخ أبي النجيب السهروردي، والفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري، فبعد أن تم لصلاح الدين فتح مدينة عكا قام القاضي الفاضل بتحويل الكنيسة العظمى بها إلى مسجد جامع، وأمر ببناء القبلة والمنبر ثم أقيمت به صلاة الجمعة، ويذكر ابن الأثير في هذا الصدد أنها: أول جمعة أقيمت بالساحل الشامي بعد أن ملكه الفرنج، وقد تولى آنذاك الفقيه جمال الدين عبداللطيف بن الشيخ أبي النجيب السهروردي أمر الخطبة والإمامة، ثم أسند إليه صلاح الدين بعد ذلك مناصب الخطابة والقضاء والحسبة والوقوف في مدينة عكا، وأما الفقيه عيسى الهكاري فقد كان ملازماً لصلاح الدين في غزواته وفتوحاته، ولهذا فقد خصص له السلطان بعد فتح عكا كل ما يتعلق بجماعة الفرسان الداوية من منازل وضياع، ومواضع ورباع، فأخذها بما فيها من غلال ومتاع تكريماً له واعترافاً بمكانته ومشاركته في الجهاد ضد الصليبيين وتشجيعاً لاستمراره في البذل والعطاء لهذه الفريضة، فكان هذا التصرف من صلاح الدين بادرة لم يسبقه إليها غيره.

وكانت هذه المنحة خلاف ما وزعه صلاح الدين على المجاهدين من أموال الفيء والغنيمة التي اغتنمها المسلمون من وراء هذا الفتح، وقد اجتمعت المصادر الإسلامية على اشتراك أعداد كبيرة من الفقهاء والعلماء مع صلاح الدين في فتح بيت المقدس على حد تعبير مؤرخيها: قصده العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلف معروف عن الحضور وكان الشيخ أبو عمر بن قدامة المقدسي، وأخوه الشيخ موفق الدين ابن قدامة، ممن شاركوا هذا الفتح وكانا من العلماء الفضلاء ذائعي الصيت.

قال ابن كثير: وكان هو وأخوه وابن خالهم الحافظ عبدالمغني وأخوه الشيخ العماد، لا ينقطعون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الفرنج، وقد حضروا معه فتح القدس والسواحل وغيرها، ولم ينس صلاح الدين في غمرة هذه الفرحة بهذا الفتح العظيم وزيره ومستشاره القاضي الفاضل الذي منعه مرضه من حضور فتح بيت المقدس وكان مقيماً بدمشق، فأرسل إليه صلاح الدين رسالة يبشره فيها بهذا الفتح ومن خلال كلمات هذه الرسالة يتضح مدى ما كان يكنه صلاح الدين من حب واحترام وتقدير لهذا القاضي الأجل، متمنياً لو أنه كان بحضرته في هذا الوقت حتى تتم فرحته بما من الله به عليه من نصر، وبعد أن من الله على صلاح الدين بفتح بيت المقدس في يوم الجمعة (27 رجب سنة 583ه/ اكتوبر 1187م) قام بتفريق الأموال التي أخذت من الصليبيين نظير افتداء أنفسهم وأرواحهم على الأمراء والعلماء والفقهاء الذين حضروا معه هذا الفتح، وبلغت نيفاً وثلاثمائة ألف دينار.

ثم جلس بخيمة ظاهر القدس على هيئة التواضع وهيبة الوقار بين الفقهاء وأهل العلم لتلقي التهاني بعد هذا الفتح العظيم.

وقد قام الشعراء من العلماء والفقهاء يهنئون صلاح الدين بهذا الفتح المجيد بقصائد من الشعر يعبرون من خلالها عن مدى سعادتهم بهذا النصر المبين، وكان منهم الشاعر المشهور القاضي ابن سناء الملك، وجدير بالذكر أن القاضيين الفاضل ومحيي الدين الزكي كانا ضمن نخبة العلماء والفقهاء الذين تنبأوا واستبشروا خيراً بفتح بيت المقدس على أيدي المسلمين فأرسلا إلى السلطان صلاح الدين يبشرانه بذلك، وقد ورد ذلك في قصيدة ابن الزكي التي نظمها بمناسبة نجاح صلاح الدين في ضم حلب إلى الوحدة الإسلامية عام (579ه/ 1183م).

ويعد هذا البيت من الاتفاقات العجيبة ومن الفأل الحسن نطق به القاضي بن الزكي وبشر فيه بفتح القدس في رجب، وكانت إرادة الله أن يفتح بيت المقدس في رجب سنة (583ه) بعد تلك البشارة بأربع سنوات ولعل تلك البشارات التي بشرت بفتح القدس، كانت دافعاً وإلهاماً لصلاح الدين أن يجتهد في فتح بيت المقدس في هذا التوقيت المبارك الذي يوافق ليلة الإسراء والمعراج، وقد قدم السلطان صلاح الدين القاضي محيي الدين بن الزكي بخطبة الجمعة بالمسجد الأقصى تكريماً له وتشريفاً على بيت الشعر الذي سبق أن مدح به صلاح الدين عند فتحه حلب، والذي بشره فيه بفتح القدس في رجب ولمكانته ومكانة أسرته العلمية وصرامته في الحق، وفضائله العديدة في الفقه والأدب، فضلاً عن أنه كان يتمتع بموهبة فريدة وأسلوب في نظم الخطب وإثارة حماس المستمعين له.

وهكذا يتضح لنا مما تقدم مدى عظم الدور الذي قام به الفقهاء والعلماء عند فتح بيت المقدس، حيث انضموا إلى صفوف المجاهدين متطوعين بدافع من حميتهم الدينية، جاؤوا من كل مكان وحملوا السلاح وراء صلاح الدين لتحرير القدس الشريف يحدوهم الأمل في النصر أو الشهادة: وكلل الله جهودهم بالنصر وبعودة القدس والمسجد الأقصى إلى المسلمين ولم يتوقف دورهم بعد ذلك وإنما كان هذا الفتح دافعاً قوياً لهم ورافعاً لروحهم المعنوية وهذا ما أدركناه في خطبة القاضي ابن الزكي الذي أخذ يحث المسلمين على مواصلة طريق الجهاد حتى يتم تطهير جميع البلاد الإسلامية من دنس الأعداء، كما أدركنا ذلك أيضاً في الوعظ الذي قام به الفقيه بن نجا، ومن الأعمال الجليلة الأخرى التي قام بها الفقهاء والعلماء في بيت المقدس بعد فتحها ما قام به الفقيه ضياء الدين عيسى الكهاري من صنع شبابيك من حديد للصخرة المقدسة لصيانتها من أي عبث بعد أن أزال عنها السلطان صلاح الدين ما أقامه الصليبيون من منكرات وصور وصلبان حولها.

الحادي عشر: حصار صور:

حقق صلاح الدين في سنة (583ه/1187م) انتصارات عظيمة ضد الصليبيين، سيطر خلالها على معظم أنحاء مملكة بيت المقدس، ماعدا مدينة صور التي وصفها المؤرخون المسلمون بأنها مدينة حصينة متوسطة في البحر كأنها سفينة، ليس لها طريق إلى البر إلا من مكان واحد له سبعة أبراج.

فضلاً عما كانت تتمتع به من أسوار منيعة وأبراج عالية قد امتلأت بالصليبيين الهاربين إليها بسبب الأمان الذي منحه صلاح الدين للصليبيين، مقابل تسليم مدنهم له وإذا كان الصليبيون قد فقدوا في معاركهم ضد صلاح الدين معظم زعمائهم وقادتهم وقعوا بين قتلى وأسرى فإنه قد ظهر بينهم بعض القادة الأكفاء الذين تولوا مهام أمورهم خاصة مثل (كونراد مونتفرات) الذي وصفه ابن شداد بقوله: انه كان رجلاً عظيماً ذا رأي وبأس شديد في دينه وصرامة عظيمة، ووصفه سبط ابن الجوزي بأنه: كان شجاعاً حازماً وكونراد هذا أو المركيس - كما تسميه المصادر العربية - أصبح زعيماً للصليبيين وقبل من بداخل المدينة من الأمراء وفرسانهم أن ينضووا تحت لواء كونراد ويعترفوا له بالزعامة عليهم، مقابل تعهده بالدفاع أثناء المفاوضات وسارع في إرسال الوفود لطلب المدد والعون من الغرب الأوروبي وحمل عبء الدفاع عما تبقى من الكيان الصليبي في بلاد الشام حتى قدوم الحملة الصليبية الثالثة، واضطر صلاح الدين لرفع الحصار الأول لصور قبل فتح بيت المقدس، وعمل كونراد على تقوية استحكامات المدينة وإعدادها للمعركة المنتظرة، فحفر خندقاً في الجانب الشرقي وهو الجانب الوحيد الذي يربط المدينة بالبر، فأضحت المدينة كالجزيرة، وحصن أسوارها مما زاد في مناعتها.

ولما عاد صلاح الدين إلى حصارها في 22 رمضان/ من تشرين الثاني وبدأ الحصار بضرب أسوار المدينة بقذائف المنجنيق، واستعمل المسلمون مختلف أنواع الأسلحة لاقتحامها، لكن دون جدوى، فقد صمدت المدينة في وجه الضرب والهجمات الإسلامية البرية والبحرية، عندئذٍ لجأ صلاح الدين إلى الأسلوب السياسي لإقناع كونراد بالتسليم، إذ كان والده وليم الثالث أسيراً في قبضة صلاح الدين فحاول أن يستغله كورقة ضغط في التأثير عليه وهدد بإعدامه، لكن هذه المحاولة فشلت أمام تصلب كونراد الذي رد على صلاح الدين بأنه يفضل أن يذبح هو وأبوه عن أن يسلم جزءاً من المدينة، وتجاه هذه التطورات السياسية والعسكرية اضطر صلاح الدين إلى رفع الحصار عن صور في آخر شوال (583ه/ أول كانون الثاني 1188م) وكان ذلك أول فشل يتعرض له في أعماله العسكرية ضد الصليبيين منذ معركة حطين ولقد تضافرت عدة عوامل دفعت صلاح الدين إلى فك الحصار عن صور من أهمها:

- كان الوضع النفسي للجيش الأيوبي حرجاً بعد أن جابهته صعوبة في فتح المدينة، وقد أشار بعض قادته بأن العساكر بحاجة إلى الراحة.

- دعاء الأمراء الأغنياء والممولين للجيش إلى فك الحصار عن صور، لأنهم خشوا أن يقترض صلاح الدين منهم ما ينفقه على أفراد الجيش إذا استمر الحصار، في حين كان رأي صلاح الدين متفقاً مع رأي بعض قادته الآخرين، القاضي باستمرار مرابطة الجيش أمام صور مع الاتجاه باقتراض الأموال من الأغنياء، لكن هؤلاء ألحوا عليه برفع الحصار.

- انفتاح صور على البحر بعد فشل الحصار البحري الذي ضربه الأسطول المصري عليها، فاستمرت المؤن والعتاد في الدخول إليها.

- تساهل صلاح الدين مع صليبيي المدن المفتوحة، والسماح لهم بالتجمع في صور مما رفع معنويات هؤلاء فتكتلوا للدفاع عن المدينة.

- أدت العوامل الطبيعية دوراً آخر في فشل الحصار، إذ جاء شتاء ذلك العام مطيراً، والبرد شديداً كما تفشى المرض في المعسكر الأيوبي.

ويبدي المؤرخون المسلمون أسفهم العميق لفشل صلاح الدين في فتح صور وأما المؤرخ ابن الأثير - الذي عرف بتحامله على صلاح الدين - حمل صلاح الدين مسؤولية ما حدث للمسلمين على صور وذكر أنه لم يكن لأحد ذنب في أمر صور غير صلاح الدين، فإنه هو الذي جهز جموع الصليبيين وأمدهم بالرجال والأموال من أهل عكا وعسقلان والقدس وغيرها، وذلك بسبب إفراطه في التسامح مع الصليبيين.

أما سبط ابن الجوزي فيرى أن صلاح الدين ضيع الفرصة على المسلمين بنقل الصليبيين إلى صور ولم ينظر في عواقب الأمور، وأنه كان من الواجب عليه عرضهم على الإسلام وإلا ضرب رقابهم بالسيف، كما أنه شبه تلك الأحداث بما حدث في معركتي بدر وأحد، ويبدو أن ابن الأثير تحامل على صلاح الدين، لأنه كان ربيب البيت الزنكي، ولم ينس أن صلاح الدين قضى على ملكهم في الشام، ولا يستبعد أن يكون سبط ابن الجوزي قد تأثر بابن الأثير في ذلك. <

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد ناصر حميدان

2025-01-18 00:17:31

وطن يصارع الضياع

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد