;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس.. الحلقة الثامنة والتسعون 1715

2008-12-24 03:57:42

المؤلف/ علي محمد الصلابي

والواقع أن تلك الخطة التي اتبعها صلاح الدين مع الصليبيين والتي تقوم على تأمينهم مقابل تسليم المدن والحصون له أتاحت لصلاح الدين فرصة الاستيلاء على معظم مملكة بيت المقدس في شهور قليلة، ما عدا أماكن قليلة منها مدينة صور، وصلاح الدين لم يكن أمامه غير اتباع هذه الخطة، إذ لو عمد إلى الاستيلاء على مدن مملكة بيت المقدس عن طريق القوة والمصابرة لطال أمر القتال، هذا بالإضافة إلى أنه قد اختار سياسة التسليم مقابل الأمان عملاً بالشريعة السمحاء.

لقد تصرف صلاح الدين طوال حروبه وكأنه يحاول محاولة واعية أن يجعل نفسه مقبولاً عند رعاياه المقبلين، وأن يضع أساس دولة تعيش فيها الديانتان جنباً إلى جنب تحت ظل السلطان، وكان هدف صلاح الدين سحق قوة الصليبيين السياسية، ولم يكن هدفه إبادة المسيحيين.

لقد أثرت تصرفات صلاح الدين المستمدة من هدي الإسلام العظيم في الساسة الأوروبيين وشعوبهم، لما رأوا من عفوه الكريم وتسامحه النبيل، فكان أسوة حسنة، ومثلاً يضرب للناس، وكسب للإسلام بقلبه وسيفه، وهذا ما جعل تشرشل يقول عنه: إنه من أعظم ملوك الدنيا، ودفع الكاتب الإنكليزي ريدر هجارد إلى القول بأنه: أعظم رجل على وجه الأرض.

الثاني عشر: استكمال الفتوحات:

1 فتح الكرك والشوبك:

كانت ستيفاني صاحبة إقطاع ما وراء نهر الأردن المجاور لمملكة بيت المقدس من بين الأسرى الذين تم افتداؤهم بعد فتح بيت المقدس فطلبت من صلاح الدين أن يطلق سراح ابنها همفري صاحب تينين: وافق صلاح الدين على طلبها لكنه اشترط مقابل ذلك تسليمه الحصنين الكبيرين: الكرك والشوبك التابعين لهذا الإقطاع، ويبدو أن ستيفاني وافقت على شرط صلاح الدين، فأفرج هذا الأخير عن ابنها، وفي حين أوعزت هي إلى حاميتي الحصنين بالاستسلام غير أنهما رفضا ذلك، مما دفعها إلى إعادة ابنها إلى الأسر تجاه هذا التصرف النبيل بادلها صلاح الدين بتصرف أنبل، فأطلق سراح ابنها بعد عدة أشهر وحاصر الحصنين، واستمر حصار الكرك والشوبك ما يزيد على السنة، تعرض المدافعون عنهما إلى الجوع والعطش، ولم يستسلموا إلا بعد أن نفدت ذخائرهم، وأكلوا دوابهم، ويئسوا من وصول نجدة تساعدهم على الصمود، وصبروا حتى لم يبق للصبر مجال وكان ذلك في شهر ربيع الأول عام "584ه/شهر أيار عام 1188م".

2- الالتفاف نحو الشمال:

بعد فتح المناطق الجنوبية لبلاد الشام واتصالها ببقية المناطق الإسلامية من أيلة في العقبة في الجنوب حتى بيروت في الشمال، باستثناء صور، التفت صلاح الدين بعد ذلك إلى الشمال لفتح مناطق السيطرة الصليبية في إمارتي طرابلس وأنطاكية، وكان ريموند الثالث صاحب طرابلس قد توفي كمداً بعد فراره من معركة حطين بوقت قصير، ولم ينجب ذرية، فأوصى بأن يخلفه الابن الأكبر لبوهيمند الثالث أمير أنطاكية، ولكن هذا الأخير كان بحاجة إلى ابنه البكر إلى جانبه للدفاع عن إمارة أنطاكية بابن آخر هو بوهيمند اجتاح صلاح الدين البقيعة بعد أن جاءته إمدادات من سنجار وهاجم حصن الأكراد في شهر "ربيع الآخر/ حزيران" وكان بحوزته الداوية، لكنه جوبه بقوة استحكاماته ومناعته فتجاوزه إلى شواطئ طرابلس وأنطاكية وهاجم أنطرطوس في شهر "جمادي الأولى/تموز" ودخلها، لكن استعصت عليه القلعة، فأمر بوضع النار في البلد وأحرق جميعه وحاصر حصن المرقب، فامتنع عليه أيضاً، فاتجه إلى بانياس في أقصى شمال إمارة طرابلس وفتحها، ثم أوغل في إمارة أنطاكية، فأذعنت له القلعة الساحلية جبلة، واستسلمت اللاذقية، وهي أكبر موانئ إمارة أنطاكية وقد غادرها الصليبيون بعد أن عجزوا عن الدفاع عنها، وفتح حصن بكسرائيل الواقع على طريق حماه مقابل جبلة.

وتحول صلاح الدين بعد ذلك إلى الداخل، واصطحب مع ابنه الظاهر غازي صاحب حلب، فهاجم قلعة صهيون التابعة للإسبتارية، وفتحها عنوة، واستسلمت له حاميتا بكاس والشغر الواقعتان في الشمال الغربي على نهر العاصي، سرمين وبرزية، وهي آخر ما يقع من القلاع في أقصى الجنوب من نهر العاصي.

وبهذه الفتوح تمت السيطرة على جميع المخافر الأمامية لمدينة أنطاكية، ولم يبقَ من حصون تابعة لهذه الإمارة سوى بغراس ودربساك في الشمال، فهاجمها صلاح الدين فأذعنت له دربساك الواقعة في جبال الأمانوس، وكانت تابعة للداوية، واستسلمت قلعة بغراس، التابعة للداوية أيضاً وكانت تتحكم في الطريق المؤدي من أنطاكية إلى كيليكية، وهكذا أصبحت إمارتا طرابلس وأنطاكية مقصوصتي الجناح، ولم يبقَ سوى مدينتي طرابلس وأنطاكية، فضلاً عن ميناء السويدية، واحتفظ الإسبتارية بحصني المرقب والأكراد، واحتفظ الداوية بانطرطوس، ونتيجة لما آلت إليه أوضاع إمارة أنطاكية، التمس بوهيمند الثالث من صلاح الدين عقد هدنة يعترف فيها بكل فتوحاته، وكانت العساكر الإسلامية قد أصابها الإرهاق نتيجة القتال المتنقل والمتواصل، لذلك وافق على التماسه وعقدت الهدنة بينهما ثمانية أشهر وأتاحت هذه الهدنة لصلاح الدين الالتفاف مجدداً نحو الجنوب، وبعد أن سرح قسماً من جيشه هاجم حصني الداوية في صفد والإسبتارية في كوكب، وفتحهما في شهري "شوال وذي القعدة عام 584ه/ كانون الأول عام 1188م" وكانون الثاني عام "1189م".

الثالث عشر: إنَّا لم نخلق للمقام في دمشق وإنما خلقنا للعبادة والجهاد في سبيل الله:

في سنة "584ه" دخل صلاح الدين دمشق بعد رجوعه من بعض غزواته، وكان دخوله في ربيع الأول، ففرح به المسلمون ودقت البشائر وزين البلد، ووجد الصفي بن القابض وكيل الخزانة قد بنى داراً بالقلعة هائلة مطلة على الشرف القبلي، فغضب عليه وعزله من وظيفته، وقال: إنا لم نخلق للمقام بدمشق وإنما خلقنا للعبادة والجهاد.

وهذا الذي عملته مما يثبط النفوس ويقعدها عما خلقت له، لقد كانت العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تعلمتها الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم هي المهيمنة على حركات صلاح الدين وتصرفاته واختياراته في الحياة، ولذلك قال هذه الكلمة التي تكتب بماء الذهب: "إنما خلقنا للعبادة والجهاد"، وقبلها في حطين قال لقادة أركانه: "لا تقاتلوا من أجلي ولكن في سبيل الله"، لقد طهر التوحيد من نفسه ما يعلق بها من أهواء وفتن ونزغ الشيطان، فقد تحدى بإيمانه العميق وفهمه الدقيق لدينه ادعاء المنجمين الذين حذروه من فتح القدس وقالوا له: تفتح القدس وتذهب عينك الواحدة فقال: رضيت أن أفتحه وأعمى، فافتتحها بعد أن كانت بأيدي الفرنج أكثر من تسعين سنة، وأبطل تخرصات المنجمين، فقد كان يصغى فقط لنداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

الرابع عشر: وفاة أسامة بن منقذ:

توفي عام "584ه" الأمير الكبير العلامة/ فارس الشام، مجد الدين مؤيد الدولة أبو المظفر أسامة ابن الأمير مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الشيزري قال الذهبي: عاش سبعاً وتسعين سنة ومات بدمشق في رمضان سنة "584ه".

وأسامة ابن منقذ من المعمرين عاش عمراً مديداً حافلاً بالمكارم والمآثر، والرزايا والخطوب، فقد شهد الحملات الصليبية على بلاد الشام، وشارك في حركة الجهاد والاستشهاد من أجل تحرير أراضي المسلمين من غزاة الغرب في شيزر وما حولها، وتحت لواء الزنكيين، وساهم في الحياة السياسية أيام السلم والحرب على حد سواء إبان العهد الزنكي، وفي أواخر العهد الفاطمي الذي انهارت قواعده على يد الناصر صلاح الدين فجمع مصر والشام في ظل دولة واحدة تمهيداً لتحرير القدس من غاصبيها، وقد تم ذلك بحمد الله، وبموت أسامة بن منقذ طويت آخر صفحة من صفحات تاريخ آل منقذ في بلاد الشام وصفه ابن العديم بأنه من الأمراء الفضلاء والأدباء الشعراء الشجعان الفرسان له مصنفات عديدة، ومجاميع مفيدة ومواقف مشهورة ووقائع مذكورة وفضائل مسطورة، وقال ابن تغري بردي: كانت له اليد الطولى في الأدب والكتابة والشعر، وكان فارساً عاقلاً مدبراً، يحفظ عشرين ألف بيت من شعر الجاهلية.

الخامس عشر: من أهم الدروس والعبر والفوائد:

من خلال عرض الأحداث السابقة تظهر للباحث عدة دروس وعبر وفوائد في حياتنا المعاصرة منها:

1- أهمية العلماء الربانيين في إيقاظ الأمة:

إن الأمة في أشد الحاجة لمن يوقظها من نومها، ويخرجها من جهلها، وينبهها من غفلتها، فالخير الذي تم على يدي صلاح الدين كان من أسبابه: حركة العلماء في التربية والتعليم والتوجيه والإرشاد، فالدور الأكبر الذي ينتظر العلماء الربانيين تصفية عقيدة الأجيال القادمة مما شابها من العقائد الباطلة والفاسدة والخرافات والشركيات، وتصفية السنة مما شابها، وتصفية التاريخ الإسلامي مما شابه من الفتن لإبراز لآلئ تاريخ أمتنا العظيم ولاستخلاص العبر، وتصفية الفقه مما شابه من الآراء والمحدثات المخالفة، وتصفية الوعظ مما شابه من الإسرائيليات والخرافات وأحاديث القصاص، وتربية الجيل على هذا، هذا هو أسس أي إصلاح لإقامة أي نهوض، وينبغي على العلماء أن يوجهوا المربين إلى إصلاح مناهج التعليم والتربية لإعداد النشء على حب الجهاد، وأن يضع نصب عينيه تاريخ القادة العظام الذين دوخوا الكافرين، أمثال الخلفاء الراشدين، وأبي عبيدة ومعاذ وخالد بن الوليد والمثنى بن حارثة، ونور الدين وصلاح الدين وقطز وبيبرس، وأن يدرس لهذا النشء معارك الإسلام الفاصلة وإلهاب عاطفتهم من الصغر على حب البذل والعطاء لدينهم، وعلى العلماء أن يأمروا بالمعروف وينهوا على المنكر، ويواجهوا الشر وهبوط العزائم، ويصونوا الأمة أن يعبث بها كل ذي هوى وكل ذي شهوة، ولا بد أن يصلح العلماء اعوجاج الأمة وقادتهم وفيهم الجبار الغاشم والمتسلط وفيهم الهابط الذي يكره الصعود، والمسترخي الذي يكره الاشتداد والمنحل الذي يكره الجد، والظالم الذي يكره العدل، وفيهم المنحرف الذي يكره الاستقامة، وفيهم ممن ينكرون المعروف ويعرفون المنكر، ولن تعود القدس إلا بعد أن يقود العلماء الربانيون مسيرة الأمة ويوجهوا الحكام إلى الخير.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد ناصر حميدان

2025-01-18 00:17:31

وطن يصارع الضياع

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد