;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس .. الحلقة المائة 823

2008-12-27 04:06:18

المؤلف/ علي محمد الصلابي

8- الجهاد في سبيل الله الطريق الوحيد لإعادة القدس:

إن الطريق الوحيد لتحرير الأراضي المحتلة هو طريق الجهاد في سبيل الله الذي يمثل جوهر الأمن في أمتنا وذروة سنام ديننا، إنه باب من أبواب الجنة إنه انطلاق من قيد الأرض وارتفاع من ثقلة اللحم والدم، وما كانت الأمة قادرة أن تحمي وجودها ومقدساتها إلا بعبادة الجهاد في سبيل الله، هذه العبادة التي مارسها نور الدين وصلاح الدين كانت من الأسباب للتصدي للغزو الصليبي قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم * تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون * يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدنٍ ذلك الفوز العظيم * وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين".

ومن الدروس والعبر والفوائد أهمية التوكل على الله والثقة فيه واليقين بنصره للمؤمنين، والتعامل مع سنن الله واستيعابها وفهمها كسنة التغيير للنفوس، وسنة التدافع وسنة الله في النصر والهزيمة ومعرفة الأسباب المعنوية للنصر، كالإيمان بالله وتقواه، وإرادة الجهاد، والإخلاص، والتوكل والصبر والوحدة والشورى والذكر والدعاء والطاعة والشجاعة والثبات، والأسباب المادية للنصر كالإنفاق وإعداد العدة والسلاح وإعداد المجاهدين عسكرياً والرباط والتخطيط والأخذ بمبادئ الحرب، كاختيار المقصد وإدامته، وحشد القوى والاقتصاد بالقوة واخارها المباغتة والتعرض والمرونة والأمن والتعاون والمطاردة وكسنة الله في إظهار الحق وإزهاق الباطل، والصراع بين الحق والباطل وسنة الله في عقاب الأمم ومعرفة أسباب العقاب الإلهي للأمم بالاستئصال كالكفر بالله عز وجل وإنكار يوم الجزاء وإسناد شركهم ومعصيتهم لمشيئة الله اتباعاً للظن، وإيذاء الرسل بشتى أنواع الإيذاء وتكذيب الأمة بعد مجيء الآيات التي تطلبها، واستعجال العذاب والجدال بالباطل والاشتغال بالدنيا ونسيان الآخرة، الإسراف، الترف، البطر، الاستكبار، المكر، الصد عن مساجد الله والذنوب. . . . الخ.

المبحث الثالث

الحملة الصليبية الثالثة ووفاة صلاح الدين

أولاً: الصليبيون يستغيثون بالغرب:

ما كاد القتال ينتهي في حطين وتتحقق خسارة الصليبيين حتى أسرعت الرسل إلى غرب أوروبا لإعلام ملوك أوروبا وأمرائها بما آلت إليه أوضاع الصليبيين في الشرق ولم يلبث أن اقتفى أثرهم رسل آخرون عقب فتح بيت المقدس، والواقع أن تلك الخسارة وهذا الفتح أحدث رد فعل عنيف في المجتمع الغربي الذي ذعر لنبأ الكارثتين، واعتقد النصارى في الغرب بأنهما جاءتا نتيجة إهمالهم في عدم الاستجابة للاستغاثات المتكررة التي جاءت من مملكة بيت المقدس في السنوات الأخيرة، وأدرك من اجتمع في مدينة صور من الصليبين أنه ما لم تصلهم نجدة من الغرب، فإن فرص الاحتفاظ بصور ستتضاءل بعد أن ضاع كل أمل في استعادة المناطق التي فقدوها، ولم يلبث كونراد دي مونتفيرات أن أرسل جوسياس رئيس أساقفة صور، إلى غرب أوروبا في منتصف عام 583ه وآخر صيف عام 1187م ليطلب من الباب وملوك أوروبا وأمرائها النجدة العاجلة، وصل جوسياس إلى صقلية واجتمع بملكها وليم الثاني الذي استجاب لهذه الدعوة بعدما راعه ما سمعه من جوسياس من أنباء الكارثة التي حلت بالصليبين في الشرق، ولما كان في حالة حرب مع بيزنطية فقد عقد صلحاً مع الإمبراطور البيزنطي، إسحاق أنجيلوس في شهر محرم 584ه/ شهر آذار عام 1188م لتفرغ للقضية الصليبية، ثم أرسل أسطولاً يحمل بضع مئات من الفرسان، إلى طرابلس بقيادة أمير البحر الصقلي مرجريت البرنديزي وقد نجح في منع صلاح الدين من فتح طرابلس.

ثم انتقل جوسياس من صقلية إلى روما ترافقه بعثة صقلية ليشرح للبابا أوربان الثالث حقيقة وضع الصليبيين في بلاد الشام فلم يتحمل البابا الصدمة وتوفي كمداً في 14 شعبان 583ه تشريه الأول 1187م على أن خليفته جريجوري الثامن بادر على الفور بالاتصال بملكي إنكلترا وفرنسا وإمبراطور ألمانيا يستحثهم على أن يتناسوا ما بينهم من خلافات، ويبعثوا قوامهم لمحاربة المسلمين، وإذا كان البابا جريجوري الثامن قد توفي هو الآخر في 13 شوال/ 17 كانون الأول قبل أن يرى ثمرة جهوده فإن خليفته كليمنت الثالث (583ه - 587ه/ 1187 - 1191م) أٍرع بالاتصال بالإمبراطور الألماني فريدريك الأول بربروسا وأقنعه بالتشارك في حملة صليبية تتجه إلى الشرق، وحدث هذا في الوقت الذي انتقل فيه جوسياس إلى الغرب لمقابلة ملكي فرنسا وإنكلترا فيليب أغسطس وهنري الثاني، واجتمع بهما في جيزورز على الحدود بين نورمنديا وفرنسا وأقنعهما بتناسي خلافاتهما التي كانت حادة وشجعهما على عقد الصلح والاشتراك معاً في حملة صليبية، ومع ذلك، فإنهما تباطآ في التنفيذ، وتجددت الحرب بينهما، ثم توفي هنري الثاني ملك إنكلترا في عام (585ه/ 1189م) وخلفه ابنه ريتشارد قلب الأسد دوق بواتو فعقد صلحاً مع الملك الفرنسي، وتجهز للقيام معه بحملة مشتركة إلى الشرق.

ويتضح دور رجال الدين المسيحي في الأزمات من خلال ما قام به جوسياس والبابا، وهنا نستخلص درساً مهماً وهو أن على العلماء والفقهاء والدعاة والمفكرين والأدباء والساسة من أمتنا تجاوز مرحلة الشعور بالحسرة والحوقلة في الملمات والنكبات التي تمر بها الأمة، والسعي الدؤوب للعمل الصحيح الذي يحبه الله ورسوله من توظيف المهارات القيادية والقدرة على الإقناع وحسن التخطيط وتقديم رؤية حضارية نهضوية. . . . الخ، من أجل إعزاز دين الله تعالى والتصدي للغزاة.

قدم الصليبيون إلى بلاد الشام بأعداد كبيرة لا تحصى، يدلنا على ذلك الرسالة التي بعث بها صلاح الدين إلى الخليفة العباسي في بغداد في سنة (586ه/ 1190م) يخبره بذلك والتي قال فيها: وقد بلي الإسلام منهم بقوم قد استطابوا الموت، واستجابوا الصوت، وفارقوا المحبين والأوطان وهجروا المألوفين والأهل والديار، وركبوا للحج ووهبوا المهج، كل ذلك طاعة لقسيسهم وامتثالاً لأمر مركيسهم.

وخرج المسيحيون على اختلاف فئاتهم وأجناسهم ومن عجز عن الخروج بنفسه جهز بعدته وثروته من يقدر على السفر، وخرجت النساء للإسهام في الحملة الصليبية الثالثة، فمنهن من خرجن وبصحبتهن الفرسان وقد تكفلن بجميع ما يحتاجون إليه من مؤن وعتاد، وعلى سبيل المثال ذكر أبو شامة وغيره أنه في سنة (585ه/ 1189م) وصل في البحر إلى بلاد الشام امرأة مسيحية جليلة القدر وفي صحبتها خمسمائة فارس بخيولهم وأتباعهم وقد تكفلت بكل ما يحتاجون إليه فهم يركبون لركوبها ويحملون لحملاتها ويثبون لوثابتها، ومنهن من خرج وقد لبسن الدروع وكن في زي الرجال للاشتراك في المعارك بأنفسهن لاعتقادهن بأن عملهن هذا عبادة ومنهن من خرج لإسعاف الغرباء وإسعاد الصليبيين بتسبيل أنفسهن لهم للاستمتاع بهن حتى لا يتسرب الملل إلى نفوس المحاربين، وأما وليم الثاني ملك صقلية فقد بادر بإرسال أسطول في سنة (585ه/ 1189م) يشتمل على ستين قطعة بها عشرة آلاف مقاتل أسند الأسطول إلى مدينة صور ثم رجع إلى طرابلس ولم ينفع الصليبيين بشيء لأنه ما به من الميرة لم تكن تكفي ما عليه من الرجال.

ثانياً: الإمبراطور الألماني في طريقه إلى الشرق:

تناسى ملوك وحكام الغرب الأوروبي ما بينهم من خلافات وحزازات وأحقاد وعقدوا العزم استجابة لدعوة البابا على تسيير حملة صليبية إلى بلاد الشام، وكان أول من استجاب لهذه الدعوة فردريك بربروسا إمبراطور ألمانيا.

ففي ربيع الأول سنة (585ه/ 1189م) بدأت الجيوش الألمانية في التجمع عند مدينة "راتسبون" استعداداً للمسير إلى بلاد الشام، وكان ذلك الجيش بالرغم من كثرته العددية يتمتع بنظام عسكري دقيق، فكان من يجني منه جناية ليس له جزاء إلا أن يذبح "مثل الشاة" وسار ذلك الجيش يتقدمه الإمبراطور فردريك بربروسا وبصحبته أحد أبنائه سالكاً الطريق البري باتجاه القسطنطينية، حتى واجه عداءً شديداً من الإمبراطور البيزنطي إسحاق الثاني إنجليوس الذي بعث إلى حليفه صلاح الدين يخبره بمسيرة الألمان ويعده بأن لا يمكنهم من عبور بلاده، إلا أن المصادر تذكر أن الإمبراطور البيزنطي لم يستطع منعهم من العبور، ولكنه لم يسعفهم بشيء من المؤن والعتاد فقلت عليهم الأقوات، وعبروا خليج القسطنطينية "البسفور" وقد اشتدت ضائقتهم وحل بهم كرب شديد، ولما عبروا إلى آسيا الصغرى تعرضوا لمتاعب كثيرة بسبب جهلهم بتلك الأماكن، لذا سلكوا الأودية على غير هدى، فكانوا يقطعون الفرسخ الواحد في يومين، فوقعوا فريسة حيث تراكمت الثلوج، فاحتاجوا إلى أكل الدواب وأحرقوا عددهم لنقص الحط عندهم، كما عدموا العلف فأنهكوا وأنهكت دوابهم حتى عجزوا عن حمل عددهم، فاضطروا إلى دفن ما عجزوا عن حمله ولما قاربوا الوصول إلى سلطنة سلاجقة الروم التي كان على رأسها السلطان قلج أرسلان بن مسعود السلجوقي نهض إليهم ابنهقطب الدين ملكشاه، واشتبك معهم في معركة كبيرة هزموه فيها، فتراجعوا إلى الوراء إلى مدينة "قونية" عاصمة السلطنة، فتعقبه الألمان، ودخلوا المدينة وأحرقوا أسواقها، ثم أرسلوا إلى والده أرسلان يقولون له: إنا لم نصل لأخذ بلادك، وإنما نزلنا لنثأر لبيت المقدس، وبعثوا إليه الهدايا وطلبوا منه الهدنة فهادنهم، فبعث هو وابنه إلى صلاح الدين يعتذران من تمكين الألمان في بلدهما ويخبرانه بأنهما غلبوا على ذلك.

ومكث الجيش الألماني مدة من الزمن في بلاد قلج وتقووا خلالها بما أرادوا من العدد والأزواد ثم واصلوا سيرهم وأشار ابن شداد وأبو شامة إلى روابط الصداقة بين السلطان قلج أرسلان والإمبراطور فردريك بربروسا، وأن قلج عندما أرسل إلى صلاح الدين يتعذر عن عبور ملك الألمان في بلاده، إنما قصد بذلك التظاهر أمام صلاح الدين بالشقاق لملك الألمان وهو في الباطن يضمر له الوفاق، وأنه أنفذ معه الأدلاء وأعطاه الرهائن حتى يضمن له العبور بسلام.

هذا بينما يذكر ابن الأثير أن أسباباً دفعت الملك قلج أرسلان إلى السماح لملك الألمان بعبور أراضيه منها حالة الضعف التي كانت تتعرض لها بلاده بسبب المشاكل الداخلية نتيجة تقسيمه ملكه بين أبنائه.

يضاف إلى ذلك ما كان يتعرض له قلج أرسلان من ضغط بسبب التحالف بين خصميه صلاح الدين من ناحية والإمبراطور البيزنطي من ناحية أخرى، وعلى كل فتلك التسهيلات التي منحها قلج للإمبراطور فردريك بربروسا لم تنفع الجيوش الألمانية بشيء إذ تعرضت أثناء عبورها لبلاده لهجمات عديدة، الأمر الذي أغضب ملك الألمان فقبض على الأدلاء والرهائن الذين سيرهم قلج معه وقيدهم بعد أن أخذ ما معهم ووضعهم في الأسر.

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد ناصر حميدان

2025-01-18 00:17:31

وطن يصارع الضياع

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد