محمد جمال عرفة
ليس لأحد أن ينكر، حتى لو صدرت عشرات بيانات النفي من عواصم عربية مختلفة، أن المحرقة الثانية التي تقوم بها قوات الاحتلال الصهيوني وتشعل بها سماء غزة، والتي جاءت بعد المحرقة الأولى في 28 فبراير الماضي 2008 والتي قتل فيها 132 فلسطينيا من بينهم 26 طفلا ووصفها نائب وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك حاييم رامون آنذاك ب"المحرقة"، تأتي هذه المرة بمباركة عربية مباشرة أو غير مباشرة لأن الجميع بات يتحدث عن أوان انتهاء حكم حماس لغزة ، بعدما كانت المحرقة الأولي بصمت عربي مخزي ومهين.
ولا يمكن أن يكون استهداف المقرات الأمنية للشرطة الفلسطينية في غزة وغالبتها من حماس، ومقار الحكومة وميناء غزة أمرا اعتباطيا في ظل الحديث الإسرائيلي والعربي عن ضرورة إنهاء سيطرة حماس علي غزة، وما يتردد عن إيكال الحكومات العربية المعادية لحماس هذه المهمة، بضوء أخضر، للصهاينة، ولا يمكن أن يكون بدء المحرقة (التي فاق ضحاياها في ساعاتها الأولي ضعف ضحايا المحرقة الثانية) بعد 24 ساعة من تبشير وزيرة الخارجية الصهيونية ليفني بها من قلب القاهرة مجرد مصادفة.
ليست صدفة أيضا أن يصف الرئيس الفلسطيني عباس المقاومة ومحاولات الأجانب كسر الحصار عبر انتفاضة سفن بأنها "محاولات عبثية"، وتبشير وزراء رام الله بقرب نهاية سيطرة حماس علي غزة، ثم تقصف طائرات أف-16 ميناء غزة وتدمره لتمنع انتفاضة السفن لكسر حصار غزة.
ولا يمكن أن تنشر تصريحات في صحيفة "القدس العربي منسوبة لمسئولين مصريين كبار نقلا عن "مصادر فلسطينية"، وكذلك عن مصادر إسرائيلية، تتحدث عن "تأديب" قادة حماس في غزة ودمشق لأنهم رفضوا الوساطة المصرية وحضور مؤتمر الحوار الوطني الأخير، دون أن يثير هذا تساؤلات حول مدي صحة هذه التصريحات حتى لو كانت ملفقة، خصوصا أنه لم يصدر نفي مصري رسمي أو فلسطيني أو إسرائيلي أو عربي لها.
محرقة برعاية عربية
قبل أيام من هذه المجزرة، قالت صحيفتي "معاريف"، و"يديعوت أحرونوت" الإسرائيليتين، أن إسرائيل بدأت حملة دبلوماسية وإعلامية شرسة للحصول على ضوء أخضر عربي لاستئناف سياسة الاغتيالات ضد قادة وكوادر حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، خاصة بعد استبعاد الحركة مد التهدئة بعد يوم 19 ديسمبر الجاري.
وقال "أليكيس فيشمان"، المعلق العسكري لصحيفة "يديعوت أحرونوت": إن "إسرائيل تسعى جاهدة لإقناع العالم العربي، خاصة مصر، بضرورة تفهم مخططاتها العسكرية تجاه حماس"، وأن "إسرائيل أرسلت "عاموس جلعاد"، مدير الدائرة السياسية والأمنية بوزارة الدفاع، إلى مصر للحصول على موافقتها على المخططات العسكرية تجاه قادة وكوادر حماس، والتي انتهى الجيش من إعدادها".
ونقل كل من "فيشمان و"بن كاسبيت"، المعلق السياسي ل"معاريف"، عن مصادر بوزارة الدفاع الإسرائيلية، قولها: إن "مدير الاستخبارات المصرية العامة، الوزير عمر سليمان، أبلغ جلعاد أن إسرائيل محقة في أي خطوة تتخذها ضد حماس، وأنه كان غاضبا أكثر من أي وقت مضى"، ومع هذا لم يصدر نفي مصري رسمي لهذه المزاعم التي لا يمكن مع ذلك إنكار أن جانبا كبيرا منها ملفق ويهدف إلى الوقيعة بين لقاهرة وحماس وهو ما سبق أن حدث في مرات سابقة، ولكن السؤال هو لماذا لم تنكرها مصر رغم أن الخارجية المصرية أنكرت معلومات أقل أهمية من ذلك؟
"فيشمان" و"كاسبيت" توقعا، نقلا عن مصادر عسكرية إسرائيلية، أن تبدأ إسرائيل حملة عسكرية كبيرة ضد حماس، وقالا إنه "حسب مخطط الجيش من الممكن أن تستأنف إسرائيل في غضون أيام قليلة عمليات التصفية ضد قادة حماس وكوادرها، وقصف المؤسسات المدنية والعسكرية، بجانب السيطرة على مساحات من الأرض في مناطق مختلفة بغزة".
بعدها حضرت ليفني التي تطمح لخلافة رئيس الوزراء الحالي ايهود أولمرت للقاهرة بناء علي دعوة مصرية، وأبلغها الرئيس مبارك ضرورة تخفيف الحصار عن غزة بعدما وصل الأمر لحد منع قوافل إغاثة مصرية تشرف عليها حرم الرئيس مبارك، ولكنها خرجت من اللقاء مع مبارك تهدد وتتوعد من قلب القاهرة، وهي إشارة ذات معني خطير تعني قرب العمل العسكري ضد غزة، حيث أقتصر تعليق وزير الخارجية المصري معها في المؤتمر الصحفي علي مطالبة حماس وإسرائيل بوقف التصعيد معا أولا كي يتسنى لمصر التدخل للتهدئة!.
أيضا تعهد أولمرت، في حوار مع قناة العربية، بضرب غزة وحماس بقوة، ووصل الأمر لحد تحريض الفلسطينيين في قطاع غزة على رفض حكامهم من حركة حماس وإسقاط منشورات علي غزة تدعو أهل غزة للخروج علي سيطرة حماس، وتحذر بأن الضربة العسكرية قادمة، ثم اجتمع المجلس الوزاري الصهيوني المصغر وتحدث عن "ضربة محدودة" قادمة بعد 24 ساعة.
وكل هذا ولم يصدر ولو بيان رفض أو تنديد عربي رسمي واحد رغم أن الخطة تأكدت رسميا في تل أبيب، بينما الصحف الحكومية في العديد من العواصم العربية تمهد أرضية المعركة بالحديث عن ضرورة إنهاء حكم حماس، وتحمل حماس كل مصائب الحصار وكأن المطلوب من حماس وأهل غزة الصمت علي الحصار الخانق عليهم وتجويعهم.
وتثير المحرقة الجديدة إذن تساؤلات :
1- هل آن أوان إسقاط حكومة حماس في غزة بهذه الضربات العسكرية التمهيدية المكثفة التي استهدفت عصب قوة حماس؟
2- هل قررت الحكومات العربية أن تحسم أمر الوحدة الفلسطينية والمصالحة بين فتح وحماس بقوة الجيش الصهيوني بحيث يتم ضرب حماس في غزة، في نفس الوقت الذي يتم فيه تهيئة الأجواء لعودة سيطرة فتح علي غزة لتبدأ بعدها الوساطة العربية؟.
3- وهل قررت إسرائيل القيام بهذه الضربة الجديدة بعدما حصلت علي الضوء الأخضر عربيا، أم أنها سعت لتوريط العرب ضمنا والإيحاء بهذا عبر إرسال مبعوثيها للعواصم العربية والأجنبية خصوصا القاهرة وإعلان قرب العدوان علي غزة من قلب القاهرة؟
4- هل استهداف مقرات شرطة حماس والحكومة وميناء غزة وضرب كل هدف أربع مرات متتالية بأربعة صواريخ حربية، استهدف بالفعل إنهاء سيطرة حماس الأمنية علي غزة وتصفية قواتها تهميدا لهذه الخطة الخاصة بإنهاء سيطرة حماس علي غزة والتي لا تعارضها الحكومات العربية علي ما يبدو باعتبار أنها الحل لمشكلة سيطرة حكومة إسلامية علي غزة، وهل أن تدمير ميناء غزة استهدف أيضا منع سفن كسر الحصار من دخوله بعدما أصبحت هناك مخاوف من انتفاضة سفن أجنبية وعربية بل وإيرانية؟
5- لو فرضنا أن هناك تواطؤ عربي ولو بالصمت، فهل هناك ثمة تفاهم عربي- صهيوني علي الخطوة التالية؟ أم أن إسرائيل ستفرض أمرا واقعا بمفردها في غزة وتصدره لمصر مثلا أو للرئيس عباس؟ وماذا لو عرضت أمر عودة عباس للسيطرة علي غزة؟ هل سيرفض ويترك هذه الفرصة أم سيقبل خصوصا أنه جعل كل اهتمامه، في المرحلة الأخيرة، تحرير غزة من حماس بأكثر من هدف تحرير فلسطين من الصهاينة.
هل الاجتياح قادم؟
قبل أن تبدأ محرقة غزة كانت كل التعليقات العسكرية الصهيونية تتحدث عن دراسة مسألة عودة إسرائيل لاحتلال قطاع غزة، وتدرس احتمالاتها المختلفة وتكاد تجمع علي الاقتصار، في هذه المرحلة علي الأقل لحين إجراء الانتخابات الإسرائيلية، علي الضربات الجوية والاجتياحات القصيرة الأمد بغرض تأديب حكومة حماس وتقليل حجم الصواريخ التي تطلق علي الدولة العبرية.
وتركزت المناقشات الإسرائيلية أكثر علي قضية من يتولي إدارة غزة في حالة دخلتها إسرائيل لضرب حماس؟، خصوصا وأن تل أبيب تدرك أن بقاءها في غزة مرة أخري مكلف جدا لها ولن يؤدي للتهدئة المنتظرة.
وفي هذا الصدد قال "بن دافيد"، المعلق العسكري في القناة الإسرائيلية العاشرة، إن "خشية إسرائيل من عدم وجود طرف تستطيع تسليمه إدارة غزة يجعلها تتراجع عن شن عملية عسكرية كبيرة ربما تؤدي إلى احتلال القطاع"، وأشار إلى أن هناك ثلاث جهات تعتقد إسرائيل أن بوسعها تسلم إدارة قطاع غزة بعد إعادة احتلاله، وهي: مصر، والرئيس الفلسطيني محمود عباس "أبو مازن"، وحلف شمال الأطلنطي "الناتو".
ومن الطبيعي أن إسرائيل تفضل أن تتولى مصر السيطرة على غزة، غير أنها تعلم جيدا أن القاهرة غير معنية بهذا الأمر وترفضه تماما، وكذلك يرفض "أبو مازن" الأمر خشية أن يقال أنه دخل غزة علي ظهر الدبابات الصهيونية، أما الناتو فيضع شروطا تجعل من المستحيل تسليمه غزة، ولذلك فقد اختار المجلس الوزاري الصهيوني المصغر فكرة الضربات الجوية المكثفة القاتلة والقيام بمحرقة أكبر من الأولي كنوع من الردع والتمهيد للاجتياح المقبل ودراسة أعمق لخيارات ما بعد الاجتياح ودراسة عواقبه.
وليس سرا أن الإسرائيليين يدركون أن حماس والمقاومة الجهادية باتت أكثر قوة عن ذي قبل، وأنها تمكنت من الحصول علي صواريخ أكثر تقدما تصل إلي عسقلان علي بعد 40 كم من غزة، وعلي سلاح أفضل عقب السيطرة علي مخازن سلاح السلطة الفلسطينية في غزة، ولهذا فإن إسرائيل في حاجة لاختبار قدرات حماس بهذه المحرقة المصغرة لمعرفة حجم قوة حماس، وتحديد مصير الاحتياج علي أساسها، فهي تخشى أن تكون قدرات حماس أكبر وتشكل تهديدا غير متوقع، كما حدث مع حزب الله في حرب صيف 2006.
محلل سياسي