وُلدت دولتان كاملتا الشخصية في القانون الدولي في السنوات الأخيرة، إحداهما بقرار من مجلس الأمن هي تيمور الشرقية والثانية باعتراف دولي واسع هي كوسوفو.
كانت "الحرب الباردة" بعد الحرب العالمية الثانية قد جمدت "اللعب" بالخرائط الدولية، وكان آخر قرار خرائطي في منظمة الأمم المتحدة هو قرار تقسيم فلسطين عام 1947 الذي قضى بإنشاء دولتين لكل من اليهود والعرب على أرض فلسطين التابعة للانتداب البريطاني.
بعد ذلك دخل النظام الدولي بقطبيه الأميركي والسوفيتي في توازن طويل جعل منع المساس بالحدود الدولية قاعدة ثابتة رئيسية في العلاقات الدولية أي معنى الانفصالي، أي منع تقسيم الدولة الواحدة أو بالمعنى التوسعي أي منع امتداد حدود دولة إلى مناطق تابعة لدولة أخرى.
بين 1948 و1990، مدة "الحرب الباردة"، حصل بعض الاستثناءات، أهمها استقلال بنغلادش عن باكستان عام 1971 بعد الحرب الهندية - الباكستانية، مع العلم أ الحدود الدولية بين الهند وباكستان لم تتأثر جراء ذلك، بل تحول الاقليم الشرقي من دولة باكستان والذي يبعد عن الاقليم الجنوبي حوالي ألفين وخمسماية كيلومتر (!) الى دولة مستقلة.
انتهت هذه الحقبة مع توحيد المانيا بعد 1990، ثم مع انهيار الاتحاد السوفياتي، ليس فقط عبر استعاد دول أوروبا الشرقية استقلالها، بل مع تفتيت الاتحاد نفسه عبر استقلال روسيا البيضاء وأوكرانيا ومولدافيا ودول آسيا الوسطى الخمس واذربيجان وأرمينيا وجورجيا في القوقاز... (ولاحقاً وحدة اليمنين الشمالي والجنوبي).
إذن في مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، المرحلة المستمرة، لم تشهد أي منطقة في العالم العربي انفصالاً في إدى دوله. على العكس كانت اليمن السباقة الى توحيد الشطرين، ولو بعد حرب دامية ولكن سريعة.
هذه المرة، مع الاستفتاء المنتظر في 9 كانون الثاني المقبل حول مصير جنوب السودان، ستكون النخب العربية أمام موسم من تجدد الهواجس الانفصالية، بل أمام "زلزال" لطالما "انتظرته" هذه النخب كجزء لا يتجزأ من ثقافتها السياسية المعاصرة التي تحتل فيها فكرة "المؤامرة لتفتيت العالم العربي" حيزاً ثابتاً منذ الكشف عن اتفاقية سايكس بيكو.
فتصويت الجنوبيين السودانيين بأكثرية لصالح الانفصال عن السودان خطر حقيقي بل هو يمثل حتى الآن الاحتمال المرجح، والظاهر أ الطبقة السياسية في السودان، لاسيما السلطة الحاكمة، بدأت تهيئ نفسها لاحتمال من هذا النوع إن لم تكن قد "هضمته" رغم تباين اتجاهاتها بل رغم صراعاتها المريرة.
ومع أ السودان لا ينتمي إلى منظومة سايكس - بيكو التي تتعلق بالمشرق وخصوصاً مناطق داخل "الولايات العربية" في الامبراطورية العثمانية إلا أ مصيره، أولاً بالعلاقة مع مصر إذ كان تابعاً ولو اسمياً لخديوي مصر، وثانياً من حيث وحدته الداخلية، كان دائماً جزءاً لا يتجزأ من مشاغل وتطلعات الوعي القومي العربي في جيله الثاني بعد الحرب العالمية الثانية، مع العلم أ "الثورة المصرية" بعد 1952 وبقيادة الرئيس/ جمال عبد الناصر هي التي اعترفت باستقلال السودان عن مصر، كجزء من عملية أنهاء الاحتلال البريطاني؟!
بعيداً عن الفجائعية، التي تميز بعض أهم خطوط ردود الفعل العربية المعاصرة على المخاطر الانفصالية داخل كل كيان عربي، لا تبدو النخب العربية مستعدة كغاية في الوضع الراهن لتلقي، بل للتعامل، مع احتمال تقسيم السودان وولادة دولة في جنوبه تعادل مساحتها مساحة فرنسا وتبني دعوى انفصالها أساساً على الاختلاف الاثني والديني لأكثريتها المسيحية والوثنية عن الشمال المسلم (بما فيه دارفور المسلمة).
ستكون السودان قطعاً أول دولة عربية مستقلة في القانون الدولي تتعرض للتقسيم.
وإذا كان السؤال حول مدى استعداد النخب العربية لتلقي هذا الوضع الجديد ذي طابع ثقافي سياسي، فإن السؤال السياسي الصرف هو المتعلق بمواقف الحكومات العربية حيال احتمال هذا التطور البالغ الخطورة.
فالنقطة الجوهرية التي نريد الوصول اليها هي أن تقسيم السودان سيجعل مصير بلد مثل العراق مطروحاً على بساط البحث بشكل عملي ودستوري في ظل الوضع "الانفصالي" الديناميكي الذي بلغته الحالة الكردية بعد العام 2003 والتي "تأسست" عملياً كحالة انفصالية بعد العام 1991 ونتائج حرب الكويت.
لا شك أن انفصال جنوب السودان - وضمن القانون الدولي أي ضمن الشرعية الدولية - سيعزز بل سيوجد دينامية انفصالية في العديد من دول المنطقة حيث التأزم الكياني دينامي اصلاً.
العراق في المقدمة، بل العراق هو الحالة "الجاهزة" لتلقف حيوية من هذا النوع، أياً تكن التطمينات التي سنسمعها - لياقة - من الأطراف الكردية، لكن كيف استعدت النخب العربية - الشيعية والسنية - في بغداد وبقية العراق لهذا الاحتمال السوداني المرجح؟ ثم ماذا ستفعل حكومات الجوار العراقي ولاسيما تركيا وسوريا وإيران المعنية مباشرة وداخليا بالمسألة الكردية؟ ناهيك عن المملكة العربية السعودية اذا قررت قيادة المملكة ان تعطي الأولوية مرة أخرى في استراتيجيتها للمسألة الكردية في العراق وليس للمسألة الشيعية - السنية... والمسألتان من حيث مصير خارطة العراق متداخلتان، وان كانتا مختلفتين على أصعدة أخرى؟
والسؤال الذي يتعلق بتركيا وايران، هل ستواجه الدولتان الاقليميتان الكبيرتان الخطر الانفصالي الكردي في مرحلة ما بعد تقسيم السودان كما فعلتا حتى الآن اي بالتكاتف الفعلي مع دول الجوار العراقي العربية بما فيها مصر اضافة طبعا الى سوريا والسعودية والكويت لمنع اي انفصال لإقليم كردستان عن الدولة العراقية أم أن تركيا وإيران ربما عزز لديهما الانفصال الجنوب - سوداني معادلة لا تزال "تحت الطاولة" وهي أبعاد خطر الانفصال الكردي عن أراضيهما - أي عن أراضي تركيا وإيران - مقابل القبول بمعادلة "كردستان صغرى" في العراق تحل العقدة التاريخية لوطن قومي كردي على غرار "ارمينيا الصغرى" القائمة منذ 1990 أو "فلسطين الصغرى" التي تجري محاولة ترتيبها دولياً على 20 بالمائة من ارض فلسطين التاريخية (أو الانتدابية!)؟
...والدولة الثانية التي ستكون - ولو بالحاح أقل ومخاطر أقل - تحت بساط الضوء بعد العراق، في مرحلة التقسيم السوداني... هي لبنان على الرغم من الاختلاف النوعي بين الخطر الانفصالي الكردي في العراق من مسألة قومية، استندت إليها الفدرالية الدستورية القائمة في العراق بعد 2003 وبين الخطر "الانفصالي" الآتي من مسألة طائفية دينية في لبنان، وهي مسألة لم تحظ تقليدياً بأي مشروعية ثقافية أو سياسية جدية بعكس الحالة الكردية في العراق التي اكتسبت كطرح فدرالي (لا انفصالي) مشروعيتها حتى في عهد البعث الصدامي الذي كان - ولو نظرياً - أقر نظام الحكم الذاتي لمناطق الأكراد العراقيين؟
النقطة الثانية التي نصل اليها هنا في مجال هذا الرصد - التوقعات، هي النتائج السلبية جداً التي سيؤدي اليها انفصال جنوب السودان - ولو ضمن الشرعية الدولية - على "سمعة" الثقافة الفدرالية في العالم العربي. إذ ستترسخ مع المخاطر العراقية قناعة أن "الفكرة الفدرالية" حيثما طبقت عربياً ستكون مقدمة لانفصال محقق، وبهذا الانفصال السوداني تتلقى "الفكرة الفدرالية" - وهي أصلاً لم تترسخ بعد في الثقافة السياسية العربية - ضربة جديدة تجعلها تظهر على عكس سمعتها وتاريخها وحاضرها الأوروبي والغربي والتي هي سمعة وتاريخ وحاضر توحيدي وديمقراطي، بينما في العالم العربي ستظهر كفكرة انفصالية على الصعيد العملي، إذ كان بالامكان لنجاح تطبيق فدرالي في السودان، كما في العراق ان يعيد تهيئة الثقافة السياسية العربية المعاصرة لقبول بل اعتماد الفكرة الفدرالية كقوة استيعاب واحترام توحيد لمجتمعات متنوعة اثنياً، بطبيعة الحال، هذا لا يعني أي تسليم بالاساس الطائفي والمذهبي للفكرة الفدرالية، فحتى في العراق لم يحصل هذا الاساس على مشروعيته حتى بعد عام 2003 ولا بد من التذكير بما قاله لي في النجف في أوائل الصيف المرجع الشيعي الأعلى السيد/ علي السيستاني في لهجة فخورة بأن المرجعية "هي التي منعت امتداد الفدرالية الى المناطق الشيعية"... رغم وجود تيار شيعي لا زال يدعو الى هذا النوع من الفدرالية المذهبية.
نحن أمام احتمال زلزال كبير في الواقع السياسي لدولة هي جزء من المنظومة العربية... لا يمكن كسابقة الا أن "يطرح نفسه" كزلزال سياسي عربي ومشرقي لأن الانفصال السوداني يأتي ضمن آليات النظام العالمي الجديد. ويبدو - وهو كذلك - جزءاً من قرار هذا "النظام"؟ٍ
- نقلاً عن "النهار" اللبنانية
جمال النقيب
هل استعدت النخب العربية المشرقية لاحتمال زلزال انفصال جنوب السودان ؟ 1823