يؤدىانفصال جنوب السودان إلى إعادة ترتيب الكثير من الأوضاع والتحالفات ولكن الكثير من التداعيات القانونية والسياسية تتصل بمصر. يهمنا فى هذه الإطلاله أن نحدد ارتدادات الانفصال على مصر سياسياً وقانونياً.
ولعل السؤال الذى طرحته كافة الدراسات التى تابعت تطورات الوضع فى السودان هو : ماهو دور مصر فى كل هذه التطورات؟ يعتبر البعض أن مصر لعبت دوراً هاماً فى التطورات المرافقة للانفصال على افتراض أن
الانفصال من حقائق الأوضاع السودانية وأن مصر أرادت أن تبنى جسوراً مع الجنوب حتى تضمن مصالحها المائية، وقدرت مصر- ربما – أن سعيها مع حكومة الخرطوم لدفع الانفصال لاجدوى منه، فقررت الاستثمار فى
افتراض الانفصال الحتمى للجنوب، بدليل أنها بادرت بإنشاء قنصلية فى جوبا فور توقيع اتفاق نيفاشا فى يناير 2005. وربما تشعر الحكومة السودانية أن اتصالات القاهرة بقيادة الحركة لم يثمر فى إثنائهم عن الانفصال وأن
المسارعة بالتعاون مع الجنوب كرس معالم الانفصال وشجع على الاستمرار فيه خاصة وأن اتفاق نيفاشا أقر تقرير المصير عن طريق الاستفتاء ولم يقطع بأن الانفصال نتيجة حتمية. يعالج هذا المقال طائفتين من التداعيات،
الأولى هى التداعيات السياسية والثانية هى التداعيات القانونية.
أما التداعيات السياسية فهى تتصل بالعلاقات الثلاثية بين مصر والسودان وجنوب السودان. فى علاقة مصر بالجنوب، يفترض أن مصر مدت يد الصداقة للجنوب لابوصفه جزءاً من السودان ولكن بوصفه جزءاً يسعى إلى
الانفصال مما يفترض أن يحفظ الجنوب لها هذا الجميل، فتزدهر العلاقات بين البلدين وكذلك التعاون فى مجال مياه النيل، ولكن يرد على هذه الحسابات قيدان أولهما نظرة الجنوب التاريخية إلى مصر وعلاقتها بالسودان، وباعتبار
الانفصال تحرر من الحكم العربى وعلاقة القاهرة وحرصها مع الخرطوم على وحدة السودان، والقيد الثانى هو أن ظروف السعى إلى الانفصال ومحاربة الشمال ارتبط بإسرائيل والكنيسة الدولية لإنشاء دولة مسيحية رغم ضآلة
نسبة المسيحيين فى الجنوب، وتركيز الجنوب على أن من دواعى الانفصال الإفلات من سيف الشريعة الإسلامية فى الشمال، فنظر الغرب إلى الانفصال على أنه انعتاق للمسيحية من سطوة الإسلام، خاصة مع ازدهار الحركة
التبشيرية، كما ارتبطت الحركة بدول لا تكن وداً لمصر لأسباب مختلفة وهى إثيوبيا وأوغندا وكينيا خاصة وأن نيروبى قد أصبحت العاصمة الدبلوماسية لإفريقيا قبل أن تهتز صورتها فى صراع الرئيس والمعارضة والجرائم
الانتخابية. ولذلك يتوقع أن ينضم جنوب السودان إلى هذه الدول ضد مصر فى مياه النيل.
والخلاصة هى أن الاستثمار المصرى فى جنوب السودان قد يحبط الآمال التى دفعت مصر إلى هذا الاستثمار وقد يدفع القاهرة إلى الندم على أوهام، لأن تركيز الغرب وإسرائيل على جنوب السودان سوف يرتد ضد المصالح
المصرية الحيوية.
أما علاقة مصر بالخرطوم، فيخشى أن يتفجر الوضع فى السودان ويسعى الجنوب إلى السعى إلى تفتيت بقية السودان، وأن الحرب التى يحاذر منها الخرطوم وقبلت بالانفصال ومن قبله نيفاشا لتفاديها قد تندلع فتجمع الخرطوم
بين ثلاثة آفات: الحرب، وتفتيت السودان والسماح لقاعدة لأعدائها فى الجنوب. وإذا طبق البشير الشريعة بحزم كما يقول فى الشمال فى الوقت الذى تتخذ فيه القاهرة موقفاً من التيارات الإسلامية، فإنه يخشى الصدام بين
القاهرة والخرطوم خاصة وأن قضية حلايب قد تكون معركة الخرطوم ضد القاهرة لتخفيف الاحتقان الداخلى فيها، فإذا أضيف التوتر المسيحى الإسلامى وأشباح المؤامرة على مياه النيل مع قضايا الحدود والأسلمة، فإنها توفر زادا
معتبراً للتوتر، وقد ينضم الخرطوم إلى دول المنابع ضد مصر فى هذه الحالة، ولكنى لا أظن أن هموم الخرطوم يمكن أن تدفعها إلى تقارب يصل إلى الوحدة مع مصر فى ظل هذه المشاكل التى سيضاف إليها مشكلة حصة مصر فى
النيل.
أما التداعيات القانونية فهى المتصلة بآثار التوارث الدولى وتطبيق قواعده بين الشمال والجنوب وانعكاساته على مصر وبشكل خاص فى نهر النيل. الأثر الأول للانفصال من الناحية الفعلية هو أن الحصة الإضافية التى
حصلت عليها مصر من السودان قد تحتاجها السودان لأن حصة الخرطوم ستوزع بينها وبين الجنوب اللهم إلا إذا رفض الجنوب أصلاً الالتزام باتفاق 1959 المصرى السودانى. فإذا اعتبر الجنوب أنه كان محتلاً ونال
استقلاله من الشمال فإنه قد يحتمى بنظرية نيريرى فى الصحيفة البيضاء التى كرستها اتفاقية فينا للتوارث فى المعاهدات لعام 1978. ولكن يرد على ذلك بأن هذه الاتفاقية تعاطفت مع المستعمرات ضد الدول الاستعمارية
الغربية والسودان لم يحتل الجنوب وليس دولة غربية، ومن ثم يجب اتفاق الطرفين ومعهما مصر على ترتيب آثار الانفصال على حصة مياه النيل، مع ملاحظة أن دول المنابع حلفاء للجنوب وتتساند مواقفهم مع الجنوب إذا اختار هذا
الموقف، وفيه ضرر فادح لمصر التى تفقد حقها الفعلى وإن بقى الحق نظريا فى أحوال التقاضى. . ودون دخول فى التفاصيل الفنية المتعلقة بحقوق مصر في إطار اتفاقية 1959 وبقية المعاهدات الأخري بما فيها اتفاقية
فيينا فإنه يمكن أن نقرر باطمئنان النتائج الآتية:
1- أن المادة الثامنة (8) من الاتفاقية بفقرتيها الأولى والثانية تجيز ابرام اتفاقيات لترتيب الالتزامات والحقوق بين السودان وجنوب السودان بما لا يناقض احكام اتفاقية فيينا كما تؤكد المادتان (11 و12) أن عملية
التوارث بذاتها لا تؤثر على الحدود المقررة فى المعاهدات السابقة سواء تعلقت بالالتزامات والحقوق أوتلك المتصلة بحالة الحدود كما لايؤثر التوارث بذاته على حدود الاتفاق والتزاماته المقرره لجنوب السودان أو المقرره عليه.
وتطبيقاً لذلك فإنه يفضل أن تدخل مصر والسودان وجنوب السودان فى مفاوضات لتنظيم الحقوق المشتركة فى مياه نهر النيل مع الأخذ في الاعتبار أن المادة (13) تؤكد على مبادئ القانون الدولى بالنسبة للسيادة الدائمة لكل
شعبا ودولة على موارده وثرواته الطبيعية. ومعلوم أن حصة مصر فى نهر النيل التى تضمنتها المعاهدات السابقة ومنها معاهدة الانتفاع المشترك بين مصر والسودان لعام 1959 ترتب لمصر السيادة الدائمة على حصتها من
المياه.
2- إن مصر لا تملك أى ضمانات باحترام الجنوب لاتفاقية 1959 والاتفاقيات السابقة عليها ولذلك فيجوز لمصر أن تعلق اعترافها بالدولة الجديدة وبمساندة الدول العربية والإفريقية مالم يتعهد جنوب السودان باحترام
المرجعية القانونية لحقوق مصر المائية ويعتبر انضمام الجنوب إلى دول المنابع فى ترتيب الأوضاع الجديدة مع دول المنابع حسبما تشير التعقيدات اخلالاً من جانب الجنوب بهذه المعاهدات خاصة وأن دول المنابع والتى حرضت
بعضها الجنوب على الانفصال اتخذ موقفاً مناقضاً لهذه المعاهدة.
ولذلك فإنه بوسع مصر أن تستفيد من المادتين (11/12) بشأن الأوضاع الإقليمية والحدود خاصة وأن الاحكام الضامنة لحقوق مصر المائية لم تتقرر فى معاهدات مستقلة وإنما كانت هذه الاحكام جزءاً يتعلق بالحدود
فتتمتع مصر بضمانة قانونية مزدوجةهى ضمانة أن الحدود ومن بينها الانهار لايجوز المساس بها وأن تتأثر بالتوارث وتفسير اوضاع الدول والأقاليم، فضلاً عن ضمانة استمرار حقوق مصر بمياه النيل فى جزء منه فى الجنوب.
وقد اوضحت المادة (24) من اتفاقية فيينا على أن كافة معاهدات النيل تطبيقاً لهذه المادة تصبح نافذة فى كنف جنوب السودان منذ لحظة الانفصال لأنها بذلك تعتبر طرفاً جديداً فى هذه الاتفاقات.
بل إن المادة (26) من اتفاقية فيينا لاترتب أى اثر على حقوق مصر المائية تجاه جنوب السودان إذا قرر السودان بعد ذلك إنهاء معاهدة 1959 مع مصر أو علق سريانها.
من الواضح أن معاهدات المياه التى التزمت بها حكومة السودان تتعلق مباشرة بجنوب السودان على أساس أن جزءاً من مياه نهر النيل يمر عبر الجنوب فى النيل الأبيض. وقد يثير التساؤل حول توزيع حصة السودان فى اتفاقية
1959 بين السودان وجنوب السودان مما يؤثر على حصة مصر فى هذه المعاهدة فما هو الإطار القانونى لضبط هذه المسألة هل هو اتفاقية فيينا بشأن التوارث الدولى أم اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات؟.
الواضح أن احكام المعاهدتين تحكم هذه المسألة فى مصلحة مصرولذلك يجب علي مصر- وهو ما كان يجب عمله منذ لحظة اكتشاف مصر نية الانفصال- أن تدخل فى مفاوضات مع السودان وجنوبه ولكن ذلك سيدفعها إلى
المحظور الذى كانت تحاذره مع دول المنابع وهو إعادة التفاوض لإعادة توزيع الحصص لأن مبادرتها في هذا الشأن فتحت عليها أبواب الجحيم.
عبدالله الأشعل
مصر وتداعيات انفصال جنوب السودان 3616