إن القراءة الإبداعية تخرج القارئ من قمقم التلقي للتكرار والإعادة والاجترار للنصوص إلى فهمها ونقدها، من خلال فحصها والقفز إلى الولوج في فضاءات الإبداع المفتوحة، تلك الفضاءات التي تجعل التساؤل أساساً، ومن هنا ففي مفهوم القراءة الإبداعية إن الذي لا يقرأ من خلال الأسئلة لا يعتبر قارئاً؛ أو أنه لا يقرأ أصلاً؛ وإنما هو "ببغاء" فقط، يردد ما يقال له، فيسجن نفسه، ولا يستطيع الاستفادة مما يقرأ، وبالمقابل يتمتع القارئ المبدع أو المبتكر بالاستفادة من النصوص والبناء عليها، وإيجاد روابط تشعبية بين النصوص المتباعدة، فيجعلها في نسق واحد ثمراتها مدهشة، وتجعل من القراءة عملية إبداعية أو إبتكارية في المقام الأول، يتمتع ممارسها بلذة المعرفة، حتى قال علامة اليمن القاضي/ محمد بن إسماعيل العمراني: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك اللذة التي نجدها حين نعرف حل مسألة ما، لجالدونا عليها بالسيوف.

إن القراء يحتاجون إلى ممارسة القراءة الإبداعية لبناء نصوص موازية للنص المقروء، وليس هذا فحسب، بل وإعادة النظر إليه من زوايا مختلفة، ومن هنا يمكن القول إن الإبداع هو سيد الملكات على الإطلاق، وأنه هو المحرك الأساسي لكل الملكات الأخرى.

إن البراهين التي تثبت ما أسلفناه من الكثرة ما يجعلنا ننتخب بعضاً منها، ليس للتدليل فحسب، ولكن لاستعراض التجارب الإبداعية والاستفادة منها، وسأبدأ بالنص الديني وهو أقدس النصوص وأهمها على الإطلاق، وهو النص الذي يحثنا الله تعالى فيه على إعمال العقل وقدراته الإبداعية لاستنباط أحكامه، وتدبر معانيه، وهنا نقف وقفة إعجاب أمام فهم آبائنا لهذه الأوامر الربانية في استنطاق النصوص الدينية، والمتمثل في مظاهر لا يتمكن باحث منها من الإلمام بها، فضلاً عن دراستها بمجموعها؛ لأنها تمثل تراث حضارة بأكملها.

إن المذاهب الفكرية هي نتاج طبيعي للقراءة الإبداعية، ذلك النوع من القراءة الذي يكتشف الفجوات في الواقع أو في النصوص، ويقوم بِجَسر تلك الفجوات ويعيد تشكيل البناء من جديد، فيضيف ويحذف ويعدل، فنشأت مذاهب فكرية مزدهرة ولا أدل على ذلك من بروز فنون المناظرة التي كانت تعقد في مجالس العلم وبين يدي الأمراء والخلفاء، وهي نوع من السجال الفكري القائم على القراءة الإبداعية للنصوص من وجهات نظر متعددة.

إن المذاهب الفقهية التي نتعبد الله عز وجل فيها من خلال مفهومات الرجال العظماء والعلماء الأعلام والأئمة الكبار للمذاهب الفقهية، قائمة في أساس الوضع على القراءة الإبداعية، ويتضح ذلك جلياً من تعدد وجهات النظر في التعامل مع النصوص، من حيث استنباط دلالاته الشرعية من القول بالإيجاب أو الندب أو غيرها من الأحكام الشرعية، ومن حيث استنباط الأحكام من خلال جمع النصوص وإعادة قراءتها بإيجاد روابط جديدة تشكل ممرات جديدة تتفق عنها أحكام تدل على الإبداع الواعي وإخراج حكم من نصوص متعددة، ومن أمثلة ذلك: استنباط أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه لأقصر مدة للحمل، وهنا تتضح القراءة الإبداعية لنصين قرآنيين يتحدث أحدهما عن مدة الحمل والفصال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (15) سورة الأحقاف، والآخر عن مدة الرضاعة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (233) سورة البقرة، فاستنبط منهما أن أقصر مدة الحمل هي ستة أشهر.

كذلك فإن النص اللغوي النحوي وتنوع مدارسه فيه إبداع لا يقتصر على التلقي، بل يتجاوز إلى الإبداع المدهش من خلال مطالعة المناظرات التي كانت تجري بين النحاة ومجالس العلماء التي ألفت فيها المؤلفات القيمة وتميزت بجدة الأفكار وأصالتها وبالمرونة والحياة في الأفكار تطويراً وابتكاراً وإنتاجاً، ولولا ذلك لتوقفت الكتابة في هذا المضمار اللغوي المهم منذ أمد بعيد.

والدرس البلاغي الذي اعتمد الإبداع، لا من حيث اختراع المعاني برغم أهميته، ولكن من حيث دراسة تلك النصوص وأوجه الإبداع فيها، واستنباط الأحكام، ودفع القارئ لوضع يده على مواضع الجمال في النصوص، ومحاولة التجريب فيها من خلال إعادة الكتابة لها، كما فعل ابن الأثير في "الوشي المرقوم"، أو ما صنعه العالم الجليل/ عبدالقاهر الجرجاني في "دلائل الإعجاز"، وهو يضع يدي المتلقي على مواطن الجمال من خلال تتبع ما أسماه بالمزية في كل نص استشهد به، ويدفع المتلقي إلى صناعة تغيير في النص وينظر ما يحدثه هذا التغيير داخل النص.