إن سياسات صالح وبقايا نظامه تريد أن تبقى اليمن في دوامة الحرب، وليس في دائرة السلام التي هي الحقيقة الطبيعية للحياة، وهو الوصف الذي خرجنا نهتف به من أول لحظة للثورة "سلمية سلمية"، وهذا يتم من خلال العفو العام وسلوك المنهج النبوي "اذهبوا فأنتم الطلقاء" ومن هنا تحركت عجلة الحياة إلى الأمام لفتح هوازن بدلا من فتح الجروح في مكة.
وفتح الجروح هو الخطأ الذي وقعت فيه الثورة الشعبية المصرية، فبدلا من الاتجاه إلى بناء مصر، اتجهت الثورة للمطالبة بالقصاص، وبدلا من استشراف المستقبل بعد مبارك، صارت تتشفى فيه وجعلت همها في علانية محاكمته.
ومن هنا نؤكد أنه لا إقصاء لأحد، ولا إلغاء لأحد، ولا مصادرة لرأي أي أحد من أي أحد، وأن كل يمني له الحق في الوظيفة العامة والحقوق السياسية وأولها الحق في الحكم، وأن كل الحقوق المكتسبة محفوظة لكل الناس، وإن ثورتنا ثورة تسامح وهذا تأكد حقيقة ثابتة على الأرض، فنحن نربأ بأنفسنا وبلدنا من ثقافة الانتقام التي تدخل الحياة في دوامة الموت السريري.
لقد أشعل النظام الحرائق في كل المجالات الحياتية الخدمية، فقام في الناحية الأمنية بتسليم البلاد للقاعدة، فالتف الشعب مع الجيش بصورة تظهر بجلاء صورة اليمن الحقيقية وتبرز بجلاء زيف صالح ونظامه، وقام في جانب الخدمات الاقتصادية بقطع المشتقات النفطية في جريمة حرب ضد الإنسانية تشبه حصار غزة، وأظهر الشعب اليمني العظيم صبره وحكمته، فقد أدرك الجميع أن الثورة تجاوزت النظام وبقاياه، فإن من يحاصر شعبه كأنه في سجن كبير، يضع نفسه في مكان السجان وليس في مكان السلطان.
إن قطع الخدمات الاقتصادية قد خدم الثورة بصورة كبيرة، فلم تتمكن بقايا النظام (أولاد الرئيس وأولاد أخيه ومن معهم) من النجاح في إدارة البلد، بل اتجهوا إلى معاقبته بأقسى أنواع العقوبات، واتجهوا إلى التجارة في السوق السوداء بهبة المملكة السعودية والإمارات، فهناك ستة ملايين برميل نفط تم هبتها لليمن من المملكة العربية السعودية ومن الإمارات، لحل أزمة المشتقات النفطية، سيطرت عليها القوات المنشقة عن الثورة والمؤيدة لنظام صالح من الجيش العائلي.
لقد تأكد للجميع في الداخل والخارج أن العقوبات الجماعية عمل غير أخلاقي، وغير إنساني، ولا يجوز إقراره، والصمت عليه، فمرضى الكلى يموتون من انقطاع الكهرباء، وذوي الحالات الخطيرة من المرضى يموتون بسبب قطع المشتقات النفطية؛ لأنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى المستشفيات لإنقاذ حياتهم، والمصالح الحياتية والاقتصادية توقفت بسبب ندرة الوقود وبيعه بعشرة أضعاف سعره في السوق السوداء برغم أنه هدية وهبة من المملكة السعودية والإمارات، فهو بدون أي تكلفة على النظام وبقاياه في الحصول عليه.
إن إشعال الحرائق في أرجاء الوطن بلغ الذروة بإعلان الحرب على أرحب، وممارسة القتل بلا عنوان في كل مكان، حيث تحول الجيش من حماية الوطن إلى قتل المواطنين، وهو ما لم يقبله شرفاء الحرس الجمهوري ومغاوير الأمن المركزي، فهم ينضمون إلى الثورة تباعاً على امتداد الوطن الحبيب، وهتافات الثوار لهم تعلوا إلى عنان السماء: حيا بهم حيا بهم. وهو ما نقوله الآن لمن بقي من الشرفاء: حيا بهم حيا بهم، وإحنا (نحن) تشرفنا بهم.
لقد أظهرت بقايا النظام وعائلة صالح قسوتها الكاملة، وهي تقتل الأطفال، وتحرق المعاقين، وتقصف الآبار، وتهدم المنازل، وتسفك الدماء، وتزهق الأرواح البريئة، وتدمر المزارع، وترسل الصواريخ للناس إلى عقر دارهم، وتخرب البيوت، وتشرد الآلاف من اليمنيين، فأدرك شعبنا العظيم أن اليمن في قلوبنا جميعا، وأنها يجب أن تتحرر من هذا النظام البائس.
وتأكد للعالم كله أننا نفدي بعضنا بعضا بالأرواح، وتحملت قبيلة أرحب الأصيلة تكاليف حماية العاصمة رغم تكلفتها الباهضة، فهذه القوة الغاشمة التي تقتل في أرحب كانت ستقوم بالقتل في العاصمة، وربما كانت العاصمة ستصبح أثرا من الماضي لولا أن دفع الله عن العاصمة ببسالة قبيلة أرحب البطلة.
وأما تعز البطلة فهي كعادتها من تقود الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية في اليمن، لقد كان الإمام أحمد بدهائه يجعل من تعز قرة عينه فلا يؤذيها أبدا، وكان يشد قبضته على ما يمكن الاصطلاح عليه ـ للدراسة فقط وليس للتفرقة ـ بالمنطقة الزيدية، فكان يمارس الخِطاط بقبيلة على قبيلة وفكرة الخطاط أحد أفظع خطط الحرب القبلية والاقتصادية على الحياة والأحياء، ولها آثارها السلبية والعميقة في زرع الانتقام بين الناس، لكنه لم يكن يؤذي تعز، بل يعتبرها قرة العين، بعكس ما قام به هذا النظام وبقاياه الإرهابية، الذي يحاول قتل الثورة كلها من خلال سحق الثوار في تعز، وكانت محرقة تعز إحدى المخازي التي سيبقى عارها على النظام وبقاياه أبد الدهر، وسيكون تعريف النظام بأنه الذي قتل المصلين في جمعة الكرامة، وأحرق المعاقين في تعز، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
د. محمد عبدالله الحاوري
الثورة والحرائق التي يشعلها النظام 1988