إن رمضان المبارك مدرسة إيمانية وحياتية كبرى في الإسلام، يا لعظمة هذا الدين الذي جعل آليات تجديده فيه، فرمضان يجدد للأمة تدينها، ويحيي فيها ارتباطها بالقرآن الكريم، ويربطها بالتفكر في الكون ورصد ظواهره الطبيعية، ويذكرها بوحدتها، وأنها أمة واحدة، ويخلصها من أمراض كثيرة ترهقها سلاسلها طوال العام، فتأتي نفحات رمضان المبارك وخيراته، فتجلو الصدأ عن معاني التدين في الإسلام، فتعيد دورة الحياة الإيمانية في النفوس والمجتمعات.
إن الدورة الإيمانية تأخذ مداها بشهر كامل اقترن بالقرآن الكريم، قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (185) سورة البقرة.
قال ابن الجوزي في التذكرة في الوعظ: انتهز فرصة الزمان، قبل تعذر الإمكان، قبل أن تنقل من اسم ما زال (ما زال فلان حيا) إلى خبر كان، فما كل حين ممكن الفوز بالمنى، ولا كل وقت يرفع الحجب للعبد، هذه إذا باعدتك الريح فادفع شراعها، فيوشك أن تأتي العواقب بالحمد، فما حازم من لم يبادر إلى العلا، ولا نافس من لم ينافس على المجد، هذه سوق المعاملة (مع الله تعالى) قائمة فأين طلاب الأرباح، هذه مقصورات الخيام بارزة فأين خطاب الملاح (من الحور العين) لو أن حورا طلعت إلى الدنيا لملأتها نورا وعطرا، فهل إلى مقارنة هذا القرين الصالح مرتاح، كيف ينفزع لخطبة الحور من هو مخلد إلى دار الغرور، إن هجرته الدنيا بكي، وإن غاب عن الآخرة رضي([1]).
وقال: كونوا كما أمركم الله، يكن لكم كما وعدكم، أجيبوا الله إذا دعاكم، يجبكم إذا دعوتموه.
إن الدورة الإيمانية الكبرى التي يحققها صيام رمضان تسير بالحياة باتجاه التقوى، قال الله تعالى عن الهدف من الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة.
وهو ما يعني أن على المسلمين أن يسألوا أنفسهم ماذا تحقق فينا من تجليات التقوى ومعانيها من خلال الصوم؟ وإلى أي مدى يتم بنيان التقوى في الحياة؛ لتظهر أخلاق المتقين التي يحددها القرآن الكريم والسنة المطهرة؟ مما يستدعي التعرف على تلك الأخلاق، وعلى طرائق التحقق بها، لكي يحقق الصوم في الأمة مراد الله منه.
إن ارتباط التدين بالحياة والمعاملة في الإسلام يدعونا جميعاً إلى أهمية التحقق الفعلي بأخلاق الإسلام "فالدين المعاملة" وهو ما يعني أن السقوط في جانب المعاملات والأخلاق وحقوق العباد قد يأتي على عمل المسلم كله، فهو لا يعفيه من النفاق العملي، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "آية المنافق ثلاث وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان"([2]) فلم تشفع صلاته، لأنه فقد حكمتها، في قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} (45) سورة العنكبوت ولا صومه لأنه لم يتحقق بالتقوى التي هي الغاية منه بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة.
إن حقوق العباد أو الجانب العملي والاجتماعي في الإسلامي قد يأتي على عمل المسلم كله إذا أساء العمل فيه، ولو كان كثيراً في الجانب التعبدي، حيث تأكل الحقوق حسناته، فإذا فنيت الحسنات، أخذ من سيئات أصحاب الحقوق، ثم طرح في النار، وهذا هو المفلس الخاسر، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له، ولا متاع له. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته، وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعد، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يعطي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار"([3]).
ومن هنا فإن تحقيق الغايات من العبادات لا يتم إلا بانتفاء الموانع، وهو شيء يغيب عن كثير من الخلق، فتجد أحدهم يجتهد في الحج والعمرة وميراث أخته عنده، وكأنه لم يسمع قط بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (51) سورة المؤمنون. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (172) سورة البقرة،ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا رب، يا رب، ومطعمة حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟"([4])
([1]) عبد الرحمن بن محمد بن علي محمد القرشي (ابن الجوزي): التذكرة في الوعظ، تحقيق: أحمد عبد الوهاب فتيح، بيروت، دار المعرفة، ص48.
([2]) صحيح) رواه مسلم، ج1، ص78، حديث رقم59.
([3]) صحيح) رواه أحمد، ج2، ص303، حديث رقم8016؛ وابن حبان في صحيحه وهذا لفظه، ج10، ص259، حديث رقم4411؛ وأبو يعلى في مسنده، ج11، ص385، حديث رقم6499؛ واالبيهقي في شعب الإيمان، ج1، ص303، حديث رقم344 . قال شعيب الأرنؤوط إسناده صحيح على شرط مسلم.
([4]) صحيح) رواه مسلم وهذا لفظه، ج2، ص703، حديث رقم1015؛ والترمذي، ج5، ص220، حديث رقم2989؛ وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه، ج5، ص19، حديث رقم8839؛ والبيهقي في السنن الكبرى، ج3، ص346، حديث رقم6187؛ وإسحاق بن راهويه في مسنده، ج1، ص241، حديث رقم199؛ وابن الجعد في مسنده، ج1، ص296، حديث رقم 2009.
د. محمد عبدالله الحاوري
مدرسة رمضان .... 2478