أصر الرئيس علي عبدالله صالح حين قرر العودة إلى صنعاء أن يمر موكبه المتجه إلى قصره فوق جثث أكبر عدد من اليمنيين، وهذا هو التفسير الوحيد لحفلة القتل التي واكبت عودته، والتي أغرقت المدينة في بحر من الدماء، على نحو لا يمكن تفسيره إلا بحسبانه رسالة تعبر عن التحدي والإصرار على التمسك بالسلطة.
لقد عاد الرئيس اليمنى متسللاً، إذ أبلغت سلطات مطار صنعاء بأن وفداً سعودياً رفيع المستوى على الطائرة التي أرادت الهبوط فيه، وما إن فتح بابها حتى فوجئ الجميع به يهبط الدرج محاطا ببعض حراسه. وقبل يوم واحد من عودته فتحت القوات الموالية له النار على المعتصمين في ساحة التغيير، واستخدمت في ذلك الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والدبابات والقذائف الصاروخية، مما أدى إلى قتل نحو أربعين شخصا وجرح عدة مئات، وهى خطوة لا يستطيع أحد أن يدعى أنها تمت دون علم الرئيس اليمنى، لأن أبناءه وأفراد أسرته هم الذين يقودون قمع المتظاهرين.
وفى فصل تمثيلي مكشوف دعا الرجل بعد وصوله إلى وقف إطلاق النار، وإزالة المظاهر المسلحة من صنعاء، حتى قال بعض المتفائلين إن الرجل عاد رافعاً غصن الزيتون ومطلقا حمامة السلام. ولأن اللقطة لم تنطل على أحد، فإن القصف العنيف استمر بعد ذلك مخلفاً نحو 40 قتيلاً آخرين غير عشرات المصابين والجرحى، الأمر الذي يسلط الضوء على ثلاث حقائق هي:
1. إن الرئيس علي عبدالله صالح عاد لكي يستمر في منصبه ولو مؤقتاً، لا لكي يحل الأزمة من خلال المبادرة الخليجية، بالتالى فإن الكلام عن نقله للسلطة الجنائية إن لم يكن من قبيل التضليل وكسب الوقت، فإنه على الأقل ليس واردا في المرحلة الحالية.
2. إن المملكة العربية السعودية تدعم موقف الرئيس اليمنى، أو بتعبير أدق هي مع عودته إلى صنعاء، لأنها لو كانت مؤيدة لإجراء حل سلمى للسلطة لنصحته بالبقاء فيها لحل الأشكال، خصوصا أن الرجل كان تحت العلاج هناك منذ ثلاثة أشهر، وإطالة مدة بقائه بدعوى استمرار العلاج يمكن أن تعد عذراً مقبولاً يرفع الحرج ويغطي الموقف، لكنه حين يلتقي العاهل السعودي الملك/ عبدالله بن عبدالعزيز وتوزع صور لقائهما على جميع الصحف، ثم يغادر بعد ذلك بأيام قليلة إلى صنعاء فلا معنى ذلك سوى أن عودته حظيت بمباركة ملكية سعودية، وهذه المباركة محملة برسالة ضمنية تقول إن الرياض لا تؤيد أي تغيير للسلطة يتم من خلال الاحتجاجات والإضرابات والاعتصمات التي تدعو إليها القوى المعارضة، وفى هذه الحالة فإن الرسالة ليست موجهة إلى المعتصمين اليمنيين فحسب، وإنما هي رسالة أيضاً إلى كل من يهمه الأمر في المنطقة، خصوصاً أهل الخليج، الغاضبين منهم والساخطين.
3. إن مجلس التعاون الخليجي يؤيد موقف المملكة السعودية، والبيان الذي نشر عن تأييد دول المجلس لأمن اليمن واستقراره ودعوتها إلى الانتقال السلمي للسلطة لا يغير كثيراً من هذه الحقيقة، ذلك أن وزراء خارجية دول مجلس التعاون عبروا عن عميق ألمهم وشديد أسفهم لسقوط القتلى والجرحىـ كما عبروا عن تعازيهم ومواساتهم الحارة لذويهم وتمنياتهم للجرحى بالشفاء العاجل، كما أدانوا اللجوء إلى استخدام السلاح خصوصاً الأسلحة الثقيلة ضد المواطنين العزل، ودعوا إلى ضبط النفس والالتزام بالوقف الفوري لإطلاق النار، كما دعوا إلى تشكيل لجنة تحقيق في الأحداث الأخيرة وإلى التوافق على تنفيذ المبادرة الخليجية.. لكن أي محلل سياسي يعتبر هذه الكلمات تعبيراً إنشائياً خجولا يفتقد إلى الجدية والحزم. هو إنشائى لأن وزراء الخارجية الذين عقدوا اجتماعهم الاستثنائي في نيويورك يدركون جيدا أن عودة الرئيس علي عبدالله صالح هي التي فاقمت المشكلة، ولو أن هناك اتفاقاً حقيقياً على أن ينقل الرجل السلطة بصورة سلمية، لتم ذلك وهو في الرياض، حيث يعد وجوده هناك حلا أمثلاً للمشكلة، لكنه أعيد خصيصا للأسباب التي سبق ذكرها، واقترنت عودته بذلك التصعيد الدموي الذي شهدته صنعاء، لكي يظهر بمظهر القوة ويكسر أنف الذين طالبوا برحيله، ثم إنه تعبير خجول لأن البيان أدان استخدام الأسلحة الثقيلة ضد المتظاهرين، وتغافل عامداً حقيقة أن نظام علي عبدالله صالح هو الذي يملك تلك الأسلحة الثقيلة، وأن لا أحد غيره يمكن أن يصوبها نحو المتظاهرين العزل.
إذا قال قائل إن موقف دول مجلس التعاون في حالة اليمن أفضل منه في حالة البحرين، التي تم فيها إرسال قوات خليجية مشتركة إلى المنامة للإسهام في قمع المتظاهرين بقسوة اقترنت بممارسات إدانتها المنظمات الحقوقية الدولية، فلن أختلف معه كثيراً، لكنني سأعتبر ذلك بمثابة مقارنة موقف سلبي أهدرت فيه كرامة اليمنيين بآخر بائس أذل بعض البحرانيين، والاثنان درجات ومراتب في الغلط الذي لم تحترم في ظله إرادة الشعوب وأهدرت كرامتها، في حين أن المشهد ينبغي أن يقاس بمعيار احترام كرامة الشعب، وليس بمقدار إهدار تلك الكرامة، ناهيك عن أن المقارنة الايجابية تكون بالأفضل وليس بالأتعس.
نقلاً عن الشروق المصرية
فهمي هويدي
حفلة القتل في اليمن 2056