يروي لنا التاريخ المعاصر أن جميع الثورات العربية بدأت خطواتها الأولى من ردهات المساجد كمؤشر على أن الإسلام هو دين الحرية والتحرر، وهي حجر الزاوية في نضالات الشعوب الإسلامية التواقة لنيل الاستقلال الناجز من المستعمرين.
وثورة 14 أكتوبر واحدة من هذه الثورات العربية التي كانت انطلاقتها الأولى من داخل المساجد وبدأت في أيامها الأولى ثورة إسلامية ضد المستعمر "الكافر"، فصارت ثورة شعبية بعمقها الإسلامي، لكن سرعان ما اختطفت وتحول مسارها "180" درجة، ليتسلم قيادتها رجال رموا بعقيدتهم عرض الحائط وتقلدوا أفكاراً دخيلة على المجتمع المسلم والأرض الإسلامية باسم الحداثة والتقدم المجافي تماماً لواقع الشعب المسلم.
وهكذا دخلت الثورة منعطفاً جديداً، سارت فيه بعيداً عن أصالة الشعب، ليرتموا بها في أحضان المد الشيوعي الملحد.
ولأن الثورة قد أُخرجت عن مسارها الطبيعي، فقد رافقتها جملة من المؤامرات والدسائس بين أقطابها، سرعان ما اُستغلت خارجياً وأصبحوا مجرد مطايا للخارج، فتجرع الشعب الجنوبي مرارة تلك المؤامرات وانعكاساتها المأساوية حتى تحققت الوحدة في "22 مايو من العام 90م".
وكانت أهم حلقات هذه المؤامرات حين رفضت الجبهة القومية قرار الأمم المتحدة بتصفية الاستعمار الذي ألزم بريطانيا بالخروج من الجنوب سلمياً ودفع جميع مستحقات الجنوب عن فترة الاستعمار وتأسيس بنية تحتية كاملة في الجنوب والخروج منه في مارس 1968م، لكن الجبهة القومية رفضت ذلك العرض، لأن المقرر أن يستلم الاستقلال جبهة التحرير ومن أجل السلطة غامروا برفض القرار وبدأوا ما أسموه الكفاح المسلح، فالتقطت الفرصة بريطانيا ودعمتهم سراً بالسلاح، فأسقطت حق الجنوب في التعويضات، وقدمت موعد الاستقلال إلى 30/نوفمبر/1967م، بموافقة وفد الجبهة القومية: قحطان الشعبي وعبدالفتاح وآخرين.
• أممية الثورة.. وتأييد الشعب:
الشعب لا يندفع بقوة لتأييد الأفكار المغلقة والدعوات الموجهة، ولكن مثل هذه الدعوات تجد لها أتباعاً ولا تجد إجماعاً.
وفي الحالة الجنوبية كان الشعب مندفعاً مع الثورة ومؤيداً للسلطة بعد الاستقلال، بصورة نادرة الحدوث في الوطن العربي على الأقل، فقد كانت ا لأعمال الكبيرة تتم بالمبادرات الشعبية "طوعياً"، مثل جني محاصيل القطن من مزارع الدولة وتفريغ حمولة السفن من الميناء وغير ذلك، بتلقائية لا مثيل لها.. لا بل وصل الأمر حد المطالبة بتخفيض الرواتب دعماً للدولة الوليدة.
حتى أن أحد المصريين كان واقفاً مع زميله اليمني في شارع مدرم بالمعلا يشهد المسيرات الحاشدة المطالبة بتخفيض الرواتب، فسأل زميله قائلاً: "هم عمالين بيزعقوا بيقولوا إيه؟!"، فرد عليه زميله: إنهم يطالبون بتخفيض الرواتب، فرد المصري مداعباً زميله: أمال إذا زيدوهم قرش هيعملوا إيه؟!.
هذا الاندفاع الشعبي العارم لتأييد حكومته جاء لأسباب كثيـرة، لكن أهمها على الإطلاق: أن الحكومة كانت تنادي بالأفكار الأممية التي تلبي حاجات الناس كافة في الحياة دون تمييز، وهذا هو سر ذلك التأييد المطلق للدولة في الجنوب.. ويتساءل المرء: أما كان أجدى بالثوار أن يلتزموا طريق الإسلام كما بدأت الثورة؟! فإنه أكثر أممية وشمولاً في مبادئه وأهدافه لصالح الإنسانية كلها وليس للمؤمنين به فقط، أما أممية الشيوعية، فتقتصر على من يحملون إيديولوجيتها فقط.. وقد كان ما كان.
منصور بلعيدي
14 أكتوبر ثورة المساجد!! 2488