قيل: الثورة يطلقها مغامر، ويسير بها ثائر، ويجني ثمارها الجبان والانتهازي والثري.
هذه القاعدة، لكن ثمة استثناءات، خصوصًا في الثورات التحررية الوطنية، عندما تنتصر، والاستثناء لا يلغي القاعدة، بل يؤكدها.
الآن، ونحن ننظر إلى عالمنا العربي، نرى مشاهد في بلاد الحراك حيث "الشعب غيَّر النظام!"، ويبدو أن المنظر لم يتغير، بل بعض "اللاعبين" ليس أكثر. فما زلنا نرى على شاشات الفضائيات مشاهد المظاهرات في الشوارع وقمع الشرطة والاشتباكات بين المعارضة والموالاة، أي بين "الأغلبية" و"الأقلية"، وبين المتظاهرين والشرطة. كذلك نسمع عن اغتيالات معارضين وقصف متبادل بين بلدات وما إلى ذلك من المشاهد المروعة.
وكنا من قبل عبّرنا عن خشيتنا من تبسيط الأمور والدفع باتجاه شعارات شعوبية لا تسمن ولا تغني من جوع، فإسقاط "إدارة" نظام ما قد يبدو سهلاً، لكن إقامة إدارة جديدة للنظام نفسه -على أساس منتصر ومهزوم- عبثية، ولن تؤدي إلا إلى إطالة الأزمات واشتداد تعقدها، وبالتالي ازدياد صعوبة البحث عن حل قائم على المصالحة الوطنية التاريخية. والمصالحة الوطنية كما نعرف، لا تتم بين أصدقاء، وإنما بين غرماء في الوطن.
رغم كل المشاهد المروعة عن صراعات في بعض بلادنا، فإننا لا نريد نشر روح اليأس وفقدان المقدرة على وضع بوصلة المحارب. قلنا من قبل: لا شرعية لثورةٍ ليست فلسطينُ شعارَها، لكن من الواضح أن القوى السائدة والمهيمنة -على الأقل إعلاميًا- على حراكات بعض الدول العربية، لا تكترث بفلسطين ولا حتى بالحرم الشريف والمسجد الأقصى ـ أولى القبلتين وثالث الحرمين ـ ولا بكنيسة القيامة في القدس المحتلة وكنيسة المهد في بيت لحم المحتلة، ولا بالناصرة المحتلة، وهمها الوحيد ذاك الكرسي اللعين، إضافة إلى رغبة جامحة لدى البعض في الانتقام من الغريم إلى حد إلغائه- أي حمل السلاح وقتله- أيًا كانت النتائج، مع أن هذا الطريق أثبت عقمه، وأن الاقتتال لن يقود إلى نتيجة مفيدة، بل إحدى نتائجه تدمير الأوطان، والشعوب، وجعل المصالحة/ التسوية/ المساومة الوطنية أمراً غاية في الصعوبة.
ويقال أيضًا: اشتدي أزمةُ تنفرجي، والمقصود بذلك أن الفرقاء لن يجلسوا على طاولة ويبدأوا الحوار لحل أزمة ما، إلا بعدما يصلون إلى قناعة بعبثية ما يفعلون، وأن الطريق الوحيد المتاح أمامهم للخروج من المأزق التاريخي الذي أُوقعوا به أو أوقعوا به أنفسهم، هو الحوار والتفاهم.
هذا غالبًا ما يحدث بعد فوات الأوان، وبعدما يكون الدمار المادي والروحي والنفسي قد استفحل، لكن ثمة تجارب من التاريخ جلس الفرقاء (قبل فوات الأوان) فيها سوية وتحاوروا وتوصلوا إلى حل وسط يعطي لكل ذي حق حقه (من منظور كل طرف في النزاع)، وأعني هنا تجربة المناضلين في جنوب أفريقيا أيًا كانت انتماءاتهم الحزبية، بقيادة الزعيم الأسطوري نيلسون منديلا.
تجربة جنوب أفريقيا في انتقال سلمي للسلطة، من نظام أقلية مذهبها العنصرية والفصل العنصري، إلى نظام نقيض أساسه التساوي أمام القانون، ما أمكن! تلك هي تجربة جنوب أفريقيا التي سيبقى تاريخها الحديث مرتبطًا بالتسوية التاريخية الكبرى التي صاغها منديلا.
هذه التجربة يبدو أننا في بلادنا العربية لسنا على دراية بها، مع أن شعوب أمتنا تناضل وتضحي بكل ما تملكه الجماهير الفقيرة المعدمة، التي جردها الطغاة من كل مقومات الحياة المادية والروحية، وفي مقدمة ذلك العيش كبشر ذوي كرامة، ضحى أجدادهم بأموالهم وأرواحهم كي يحرروا الوطن من المستعمر.
كثير من "الجهلة" يدّعون أن انهيار نظام بريتوريا العنصري وتسليمه بالواقع السكاني والاقتصادي في جنوب أفريقيا، لم يكن ممكنًا قبل هزيمة المعسكر الشيوعي حيث زالت أخطار "وهمية" بأن المناضلين الأفارقة المنضوين تحت راية المؤتمر الوطني الأفريقي وغيره من التنظيمات السياسية، ما هم إلا مجموعة شيوعية هدفها تقويض إحدى قلاع "العالم الحر" المزعوم.
كثير من المدعين كتبوا عن ذلك، لكن من دون معرفة تفاصيل التطورات الداخلية التي أطلقت العملية التفاوضية التي أدت إلى نيل البشر السود من أهل البلاد حقوقهم القانونية.
الواقع أن عملية الانتقال السلمي كانت على جانب كبير من التعقيد، وشهدت تقلبات كثيرة وعمليات صعود وهبوط، وتفاؤل وأقصى درجات التشاؤم. وبالنظر في وثائق عملية الانتقال تلك، من بداياتها التي انطلقت من علاقات شخصية بين أطراف في جنوب أفريقيا متصارعة ولكنها في الوقت نفسه مصممة -وإن بدرجات متفاوتة- على استبدال نظام "صوت واحد لكل ناخب" بالنظام العنصري المكروه عالميًا، والذي لم يكن يحظى بتعاطف "مستتر أحيانًا" إلا من بعض دول الغرب الاستعمارية، وفي مقدمتها إدارة مارغريت ثاتشر في بريطانيا، التي لم يكن ينافسها في عشق ذلك النظام البغيض سوى كيان العدو الصهيوني والذي وثقه باحث جنوب أفريقي -يهودي، إن كان هذا الأمر يهم البعض- في كتاب "التحالف المسكوت عنه"، وقد سبق لنا عرض الكتاب في موقع الجزيرة نت.
لقد مرت عملية الانتقال التفاوضي بمراحل مختلفة بدأت باتصالات شخصية شارك فيها رجال أعمال جنوب أفريقيين وأوروبيين، في بيوت تقع وسط الغابات وفي غرف فنادق في سويسرا، بعيدة عن أعين المتطفلين والصحفيين الذين لو اطلعوا عليها لألحقوا بالعملية أخطارا حقيقية.
ومع أن سرية المحادثات بين الطرفين -والتي امتدت سنين طويلة- كانت حاسمة لاستمرار البحث عن حل سلمي يضمن للبشر السود في جنوب أفريقيا حقوقهم القانونية في بلادهم، فإن الوثائق ذات العلاقة والحقائق المرتبطة بها، تثبت أن العامل الحاسم الذي مكّن المؤتمر الوطني الأفريقي وحلفاءه من الوصول إلى أهدافهم الوطنية، كان تمسّك قيادته بحقوق شعبها كاملة، ورفض التنازل عن الحقوق الوطنية والمدنية مهما كان حجمها ضئيلاً، إضافة إلى تمسكها بالوحدة رغم محولات نظام بريتوريا زرع الفرقة بين أفرادها ومحاولة خلق تناقضات بين قيادة الداخل، أي في سجون نظام بريتوريا العنصري، وقيادة الخارج التي كانت تقيم بين الجزائر وزامبيا وغيرهما، ورفض إملاءات الخارج ومغرياته انطلاقًا من معرفة حقيقة أن الشيء الوحيد الذي يقدم مجانًا هو قطعة الجبن في مصيدة الفأر!
سرية المفاوضات كانت ضرورية لأن "الرؤوس الساخنة" في كلا المعسكرين كانت متوثبة لإفشال أي حل لا يحقق لها كل مطالبها، أو يضمن سيادتها العنصرية. في الواقع، شهدت مرحلة التفاوض العلني بين الطرفين سقوط عدد من الضحايا في كلا المعسكرين يفوق ما سقط إبان فترة الكفاح المسلح. مع هذا، تمكنت قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي، بفضل حنكة زعيمها منديلا وتفانيه من أجل القضية الوطنية، من إثبات صحة الطريق الذي اختطته، والمتمثل في التسوية التاريخية الكبرى عبر التركيز على ما هو جوهري والابتعاد عما هو ثانوي قد يعرقل المصالحة.
لقد اجتمعت عوامل كثيرة ساهمت في إنجاح التسوية التفاوضية في جنوب أفريقيا، أهمها كما نرى، التعالي عن الجراح، والنظر إلى مستقبل أفضل يتساوى فيه كل سكان البلاد أمام القانون، وترك الاتهامات والاتهامات المتبادلة وكل ما يتمسك به صبية العمل السياسي ومراهقوه الذين نراهم يحيطون بنا في بلادنا وأوطاننا.
نيلسون منديلا كان على قناعة بأن الانطلاق من الجراح الشخصية وتقديمها على مصلحة الوطن والشعب لن يؤدي إلا إلى سكب المزيد من أنهر الدماء البريئة، والمزيد من الجراح وإشاعة الخراب في كل زاوية من زوايا الوطن. ويكفي برهانًا على صحة ذلك النظر حولنا لنرى بحور الدموع والدماء الغارقين فيها، ولكي نفهم أن خوض طريق غير المصالحة الوطنية التاريخية لن يغير سوى عدد الضحايا وكمّ الخراب والدمار.
منديلا انطلق في مشروع المصالحة التاريخية من قناعاته كثائر حقيقي يعشق الحياة عشقه لوطن حر. رئيس النظام العنصري أجبر على السير في الطريق ذاته، لكن التاريخ سيكتب أنه ساهم فيه بقسط وإن كان مجبرًا، حيث سجل أنه وصل إلى تلك القناعة عبر رؤية إلهية كانت تطالبه بالسير في طريق التسوية التفاوضية.
إن تجربة التسوية التفاوضية في جنوب أفريقيا فريدة ودرس في حكمة العمل يمكننا، بل علينا جميعنا الاستفادة منها لإخراج أوطاننا من أزماتها الحالية، ودليل عملي وعلمي لا مثيل له، لكيفية السمو عن كل ما هو شخصي، والنظر إلى مستقبل أفضل للجميع، وترك الماضي وإدانة الجاني السياسي لكتب التاريخ.
لذا فإننا في حاجة إلى عقلية مبدعة من أبناء أمتنا الذين لم يتلوثوا بأوهامنا وأكاذيبنا وحالات الإنكار التي تحيط بأعناقنا كحبل المشنقة، يتعلمون من دروس من سبقنا من شعوب العالم المظلومة، حتى يقدروا على ابتداع طرق تجنب أوطاننا الدمارَ الكلي والمنطقة الخرابَ الشامل.
لنتذكَّر أن التاريخ يعلمنا أن المصالحة التاريخية الكبرى كانت نهاية كل أزمة وطنية. وكل من ظن أنه ربح الحرب الأهلية، اضطر في نهاية المطاف -أي بعد خراب البصرة- إلى الدخول في مساومة تاريخية تعيد التوازن بين مكونات الوطن، أي الشعب، وأنه ليس ثمة رابح وخاسر في الحرب، هناك منتصر ومهزوم، لكن الكل خاسر.
لقد توهم عنصريو جنوب أفريقيا بديمومة سيادتهم، وانطلقوا من وهمهم بأن انتماءهم إلى "العرق" الأبيض يمنحهم حقًا إلهيًا لاستمرار الهيمنة على البلاد. لكن الوقائع التاريخية أثبتت عكس ذلك، وأجبرتهم على الاقتناع بأن ما كانوا يؤمنون بأنه حقيقة مطلقة، ما هو إلا وهم. بل إن زعيمهم بوتا يصرح بأن ما دفعه للسير في طريق المساومة التاريخية الكبرى كانت رؤية مسيحانية سماوية ألهمته وكلفته بإنجازها.
الأطراف الأكثر تطرفًا في ذلك المعسكر المصاب بهوس ووهم امتلاك الحقيقة المطلقة، عملت على تصعيد الاقتتال حتى تمنع بحورُ الدم أيَّ مساومة. لكن هذا لم يُجدِ نفعًا، واضطرت في نهاية المطاف إلى الانكفاء أمام إصرار أغلبية المجتمع في تلك البلاد على إنهاء الأزمة عبر "التسوية التاريخية الكبرى"، وعادت عنقاء الحروب إلى دفن نفسها تحت الرمال التي أثارتها رياح التغيير المتعقل، وإن كان من منظور البعض "مكرهًا أخاك لا بطلا"!
أخيرًا، ثمة حادثة معبرة، عن أول لقاء بين نيلسون منديلا "السجين" الذي استجلبه السجان الأبيض من الزنزانة للاجتماع ببوتا رئيس نظام جنوب أفريقيا العنصري، إبان اللقاءات السرية التي كانت تتم بين الطرفين تحضيرًا للوصول إلى المساومة التاريخية الكبرى تقول: استقل الجميع المصعد مباشرة إلى الطابق الأول وخرجوا باتجاه باب مكتب الرئيس بوتا، وعندما كانوا على وشك الدخول، لاحظ برنارد "رئيس كل أجهزة مخابرات نظام بريتوريا العنصري" أن رباط حذاء منديلا غير معقود, فانحنى على ركبتيه ليربط شريط حذائه قبالة باب مكتب رئيس جمهورية جنوب أفريقيا!
تلك الانحناءة تلخِّص على نحو بليغ مصير كل جلاد، فهل نتعلم جميعنا قبل فوات الأوان!
زياد منى
عندما انحنى كبير الجلادين عند حذاء الضحية 1904