بفضل الله يعلم الجميع أني أفتي ولا أخشى في الله لومة لائم, لا حزباً، ولا تنظيماً، ولا تابعاً، ولا متبوعا، ولا رئيسا، ولا مرؤوسا، لا أخشى إلا الله (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيبا). لا أبالي إن علقت وظيفتي، أو جمد منصبي، أو.. الخ, لأني أعتقد أني مع الله وعبد له فقط، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأنا مستقل الفكر والاجتهاد والرأي لا أتبع أحداً، فأقول انطلقت الثورات العربية السلمية وكان منها الثورة السلمية في اليمن، ونزلنا ونزل الناس إلى الميادين، وأطول مرابطة في التاريخ حسب علمي هي في الساحة الثورية في اليمن..
ولما كان نزول الثوار السلميين إلى الساحات هو نزول شعبي عام، لدفع المنكرات وتغيير الفساد العام، احتمل الضرر الخاص في نصب الخيام، دفعاً للعام، كما هو مقرر عند الفقهاء ولهذا صدرت الفتاوى والأبحاث بجواز نصب الخيام تقديما لدفع المفسدة الكبرى على الصغرى، مع إمكان تعويض المتضررين لأن القاعدة القطعية المقررة هي "لا ضرر ولا ضرار", ثم جاءت المبادرة الخليجية التي كيفناها شرعاً حينئذ على أنها مصالحة واجب الأخذ بها، لأن الأمور وصلت إلى الانسداد المتعمد من جهة تريد البقاء في القيادة، وأمر الله نافذ عليهم قريباً، وبدأت الساحة منذ ذلك الحين بالتفكك السلمي وانتقضت عروة عروة، فضعف أول مقاصدها وهي البقاء لإزالة الرئيس السابق، ثم أخذ مجلسها الوطني المزور نصف الحكومة الوفاقية وأصبحت المبادرة الخليجية واجبة أن نأخذ بها؛ لأنها مصالحة مأمور بها بعموم "وأصلحوا ذات بينكم"، والأمر في جميع المذاهب الأربعة والزيدية والظاهرية للوجوب، واشتد وجوبها لما حصل التوقيع عليها، لأنها أصبحت وثيقة عهد ووفاق وعقد، إضافة إلى كونها مصالحة، وهذه الأمور من أوثق وأكبر ما يجب الوفاء به في الشرع, ولا تتفرق الجماعات والدول إلا بنقض الاتفاقات والعهود والمواثيق، ولما أمر الله بالوفاء بالعهود والمواثيق حذر تحذيراً شديداً جداً من التحايل والمكر والخداع، في مواضع كثيرة منها (ولا تشتروا بعهد الله وأيمانكم ثمناً قليلاً)..
ولنا وقفة مع فقه هذه النصوص، لكن أريد إن أقول أن المبادرة هي الحاسمة, لأنها عهد وميثاق ومصالحة وعقد، وهذه الأمور توجب الالتزام شرعا، وعلة جواز بقاء الساحات بعد التوقيع على المبادرة ضعفت من جهة أخرى، ثم توالى الضعف، فارتفعت اللجنة الإعلامية, فانتهت الصلوات الخمس في الساحات وانقطع الأذان، الذي كان يجمع الجميع، ويرفع من أول الساحة إلى آخرها، وترى في الأوقات الخمسة الثوار راكعين ساجدين، فلما انقطع الأذان والصلوات في جماعة ظهرت مفسدة عظمى "ما من ثلاثة لا يؤذن فيهم ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" حديث صحيح, ومن صلى بعد انقطاع الأذان والجماعة الكبرى ففي الخيام أو الشقق، فنشأت جماعات وجماعات، تلاشت شيئاً فشيئاً مع الزمن، حتى أن من أراد الصلاة في الساحة الآن صلى منفرداً غالباً، أو في جماعة نادرة، غير منتظمة، ثم ظهر على إثر ذلك الطائفية المذهبية حتى في الصلاة، ثم انتقض شيء آخر هام، هي اللجنة الأمنية التي كانت تحمي الساحات أمنياً وتراقب وتفتش، فلما ارتفعت نزلت أنواع وصنوف المفاسد في الساحة، وظهرت الفتن والتعصبات والطوائف وما سيأتي من المفاسد الكبرى أكبر وأعظم، واللبيب من كفته الإشارة.
ومن جهة أخرى عظم الضرر على أهل الأحياء في الساحة والتجار والساكنين والمارة, فتضرروا لطول هذه المدة في دينهم وأموالهم ومساكنهم وأعراضهم تضرراً فاحشاً، وقد أجمع العلماء في مشارق الأرض ومغاربها على وجوب دفع الضرر الفاحش..
ولهذا كله أفتي بوجوب رفع خيام الساحات دفعاً للضرر والضرر واجب الدفع في الشرع بإجماع، ولغلبة مفاسد بقاءها على المصالح العامة والخاصة، وأفتي أن من بقي فيها فهو آثم لأنه لا معنى لبقاءه سوى الإيذاء مع عدم وجود مفسدة أكبر تستدعي البقاء ، والله يقول (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد حتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً), ولم أكتب هذه الفتوى إلا بعد تأمل وبحث دام شهوراً، ولعل من يفتي لحزب أو دولة أو سلطان سيغضب، ولكني لا أبالي وأنا مستعد له ولغيره، وما عليه إلا البيان، والله هو الذي يكتب القبول في الأرض.. ولي فتوى أخرى ستصدر في حكم بقاء الصلاة للجمعة في الساحات حتى الآن، وأنا في بحث متروٍ.. اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد..
*أستاذ مقاصد الشريعة والفقه وأصوله وقواعده, عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين, مستشار ومفتي أنصار الثورة السلمية في اليمن.
د/ فضل مراد
الآن.. بقاء الخيام منكر 1643