إن ما حدث ويحدث في مصر وغيرها لا بد أن ننظر إليه من خلال سياق سنن الله في اختبار الأفراد والشعوب والأمم، لماذا؟.. لأن الله ركب حياة الإنسانية على سنن الابتلاء، والتدافع، والتداول، والتغيير، وهذا ما أخبرنا الله به جلياً, ففي الآية (2) من سورة الملك قال تعالى:( الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا), وافتتح سورة العنكبوت بقوله: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون), وفي الآية (31) من سورة محمد:( ولنبلونكم حتى نعلم
المجاهدين منكم والصابرين), وفي الآية (137) من سورة آل عمران:( وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين).
نجاح الاختبار والابتلاء الإيجابي لأي أمة هو من خلال تحقيق العدالة، والمساواة، والتوازن، والتنمية والاستقلال، والاستقرار, ولكن نجاح الاختبار مرهون بوجود شعب يتمتع أفراده ومكوناته بقيمتين هامتين عظيمتين، هما: الحرية والكرامة، وهما تنتزعان بالقوة، ولا توهبان, ولكن ثمن الحرية والكرامة كبير جداً، أكبر من (18 ) يوماً صياح في ميدان التحرير، و(350) شهيداً في ثورة (25) يناير للشعب المصري.. بل إن ثمن الحرية والكرامة أغلى وأعلى مما حصل من حرق وقتل لآلاف المصريين في فض اعتصامي النهضة ورابعة العدوية وبقية محافظات مصر، لأن هذه التضحية ستولد الحرية والكرامة.
لنعلم أنه من أجل حرية الاختيار والكرامة تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم الابتلاء والحصار والمطاردة، والتآمر على قتله من قبل قادة قريش المدافعين عن مكانتهم وكهنوتهم واستبدادهم وهيمنتهم، ولهذا كانت الهجرة من مكة إلى يثرب للبحث عن الحرية والكرامة، وكانت بدر، وأحد، التي جرح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته، ثم الخندق، ثم فتح مكة، وما قالت قريش لرسول الله معترفة بحريته وكرامته "أخ كريم وابن أخ كريم" إلا بعد التضحيات وكسر شوكة قريش، وكان إعلام قريش كإعلام انقلابي مصر، فكان إعلام قريش يقول عن محمد صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون، وساحر، وكذاب, اختطف بعض أذهان قريش وأسلمها، كما يقول إعلام قريش مصر السيسي حول أذهان المعتصمين، وأخونة الدولة، وخطف, وغيره..
وكذلك لنتذكر أنه ما تحررت الشعوب الأوروبية إلا بعد ما قدمت ملايين القتلى، وعشرات السنين من التضحية حتى غرسوا شجرة الحرية والكرامة، ونموها وحافظوا عليها, وأوجدوا دساتير وآليات قانونية لحراستها، وحددوا عقوبات لمنتهكي الحريات، وأصبح لا يجرؤ على انتهاك حرية الإنسان الأوروبي والأمريكي أي فرد أو حزب كائناً من كان.
إن تمتع الشعوب العربية والمواطن العربي بالحرية والكرامة سيفقد قادة قريش العرب المكانة والجاه، والمال، والكهنوت السياسي.. إن حرية وكرامة الشعوب العربية ستفقد الظالمين والمجرمين والمتسيدين والمستبدين كل مميزاتهم، ومكانتهم وكهنوتهم, وعمالاتهم وعملتهم.. إن حرية الشعوب العربية وكرامتها ستفقد المشروع الصهيوأمريكي حراسة إسرائيل وأمنها من قبل عبيد الموساد من حكام وجيوش بعض العرب.. إن حرية وكرامة الشعوب العربية سيجعلها تفكر وتبدع وستصل إلى الاستقلال الذاتي.. إن حرية وكرامة الشعوب العربية سيصيب رعايا ومواطني أسر الحكم الوراثي أسر البتر ودولار بالعدوى.. ولهذا تداعوا أثناء ثورة (25) يناير المصرية وشجعوا قادة جيش مصر على التضحية بمبارك، من أجل أن يحافظوا على النظام القمعي العميق المكلف بمنع ظهور الحرية والكرامة لدى الشعب المصري، المكلف بحماية إسرائيل، ثم بعد إزاحة مبارك يقومون بإعادة رأس للنظام, فجهزوا شفيق مرشح الفلول والمشروع الصهيوأمريكي، وأسر البترودولار، إلا أن المرشح الاحتياط لحزب الحرية والعدالة مرسي فاز على شفيق.. وهنا تحولوا إلى الانقلاب عليه من أول ما فاز، وعملوا على إفشاله, وتحولت مؤسسات الدولة العميقة ضده بكل خبرتها الإعلام، والقضاء، والشرطة، والأمن المركزي، ومؤسسات الخدمات كهرباء وغاز ووقود.. ولما صمد مرسي رتبوا الانقلاب العسكري وعملوا مكياجا اسمه حركة تمرد, وضحكوا على الثوار الليبراليين المعارضين لحكم مرسي, فكان انقلاب (30/6).
إن الانقلابيين الدمويين تحركوا بعقول قراصنة من مواقع القرار، وفقدوا شرفهم العسكري، ووطنيتهم، وهويتهم، ودينهم، واعتقدوا بأنهم قد أعدموا الحرية، والكرامة النامية في قلوب شعب مصر.. ولهذا توجهوا إلى مجزرة الحرس الجمهوري, وقتلوا الركع السجود، وأتموها بمجزرة رهيبة لم يعرفها الشعب المصري من قبل, وعلى مشهد من العالم، وكما فعل ذو نواس بحرق الناس في الأخدود، فقاموا بالهجوم بالأسلحة النارية والجرافات والمصفحات، والرصاص الحي على معتصمين عزل مسالمين لا يملكون إلا الكلمة، أحرقوا وقتلوا الرجال والنساء والأطفال، والشيوخ في خيامهم، واستخدموا السلاح الحربي والجرافات التي اشتريت لصد العدوان الخارجي ضد شعب مصر, فاستعملوها ضد أبناء مصر السلميين.
إن قادة انقلاب العسكر في مصر على الحرية والكرامة، والديمقراطية والشرعية، جعلوا بلدهم مصر صغيرة وقزموها وهي عظيمة، وجعلوها تابعة لأعراب بترودولا، وحارسة للصهيونية، ويتوجهون الآن بمصر إلى المجهول، قال تعالى في الآية (47) وما بعدها من سورة الأنفال:( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة, وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين.. لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون).. والله الموفق؟
محمد سيف عبدالله
أضواء عن أحداث مصر (1) 1747