لم يقف الكثيرون عند البند المصري في البيان الختامي لقمة الكويت الخليجية 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري ودلالته السياسية، والذي نص على أن المجلس يدعم خيارات الشعب المصري, ويتمنى عودة مصر للعب توازنها المحوري، دون أي ذكر لمشروع الانقلاب ومقدماته في 30 يونيو/حزيران الماضي، والذي حظي عندها وبعدها بدعم دول خليجية بالمطلق وبصريح العبارة للفريق السيسي ومشروعه.
والواقع أن الأمل بعودة مصر للعب دورها الاستراتيجي كان قد استعاده الرئيس محمد مرسي لتحقيق التوازن الإقليمي مع إيران وإسرائيل، ثم انهار كلياً بعد الانقلاب، وبالذات في موازين القوى المضطربة والمتغيرة دراماتيكياً في الخليج العربي.
وهذا النّص يحمل اعترافاً ضمنياً بدور 30 يونيو في تحييد مصر لمصلحة خصوم العرب, وأضحى واقع القاهرة اليوم وفق الوفود والتصريحات الرسمية مقربا للغاية من تل أبيب وطهران.
والقول إن: هذه الصياغة التوافقية التي طُرحت في القمة عَبَرت هكذا لضمان نجاح القمة دون أي تغيّر يُرصد مصرياً غير صحيح، فمع التسليم بأن الصفقة الإيرانية الأميركية أثّرت كثيراً على أجواء القمة، وكذلك تهديد عمان بالانسحاب من مجلس التعاون، إلا أنّ هذا التوافق على العبارة بين الرياض والدوحة، وهو توافق سريع، لم يشهد توترا وفق شهادة من داخل المجلس، لم يكن ليتم لو أنّ السيسي حسم الأمر بقبضته الأمنية.
وهو ما يعني أن مؤيديه من الطرف الخليجي, أدركوا صعوبة المشهد المصري أمام مشروع السيسي النهائي مع كل الدعم الذي تلقّاه إسرائيلياً وخليجياً, وهنا الحكاية لم تنته أيضا.
فإحدى إشكاليات مشروع الانقلاب مع البيت الخليجي، أنه محتضن من التيار الناصري، وهناك صناعة قوية يقودها "محمد حسنين هيكل" وفريق معه لتقديم الفريق عبد الفتاح السيسي وريثا ومجددا للعهد الناصري، والدعم الخليجي للبناء الثقافي للانقلاب الذي قاده التيار الناصري الأقوى والأكثر قدرة من البقاء، مقابل هشاشة ومستوى مجموعة تمرد وحداثتها، كان يلتف حول هدف محدد.
وهذا الهدف هو إسقاط ثورة 25 يناير، وتحييد الإسلاميين كليا من دولة 30 يونيو، وعودة التوازن للحزب الوطني القديم؛ لكن لم يكن لهذا الحزب أن يتفاعل علنيا في مقدمات الانقلاب، ولذلك شكّل الترس الناصري عمود التغطية الفكرية وحتى اليوم في استمرار دعم القبضة الأمنية ضد الثوار.
لكن هذه الشراكة الناصرية المحتفى بها من الصحافة في الخليج العربي مؤخراً والممتدة الجسور من مفاهيم ثورة يوليو/تموز1952م، مع التفاوت في المشهد، تُعيد إشكالية علاقة إيران بالتيار الناصري التي شهدت ربيعاً مزدهراً خلال العقدين الأخيرين، وموقف متحد مع الطائفية الإيرانية، مقابل ما يُسمى بالإسلام السُني.
وهذا التقارب يُقلق المحور الممانع لدول الخليج العربي من إيران بعد انقسام المجلس إلى محورين، وبالتالي فإن هذا التناغم الواضح في مصر 30 يونيو ضد الثورة السورية والمقترب من إيران، يعني الكثير للمستقبل السياسي للمنطقة.
وأثناء الفترة الماضية، لم تبرز خلافات بين أركان مؤسسة مبارك القديمة كنبيل فهمي أو الببلاوي وشخصيات الفريق السيسي، وبين الترس الناصري في الموقف من إيران، فالكل مع مد الجسور معها ورفض الالتزام بموقف الرياض وشركائها من إيران والنظام السوري.
وهذا لا يعني أن هناك تغيّراً شاملاً في العلاقات الثنائية بعد الانقلاب، لكنه مساحة أزمة ثقة بدأت تُقرأ بصورة مختلفة بعد صاعقة الصفقة وأثرها على المنطقة.
وهنا لا يبدو أمام محور الممانعة من الصفقة أي طمأنة لاستعادة مواقف الرئيس مبارك معهم في أزمات إيران القديمة، فقد تغيرت قواعد اللعبة, وموقف التيار الناصري لا يختلف عن الحزب الوطني الذي يُدرك كلياً تغيّر موازين القوى وتحول الموقف الأميركي في المنطقة.
والحالة الناصرية اليوم لا تزال في موقع هذا الترس الأمني، رغم بروز تناقضات بين فكرة عودته عبر بوابة حمدين صباحي، وبين خضوع التيار لصناعة هيكل الجديدة للسيسي كبوابة لتجديد العهد الناصري، وواضح أن أسهم حمدين تتساقط من الرفاق مقابل القائد العسكري المُلهم الذي يشترك مع عبد الناصر في بدلته ودبابته، بينما لم تعد لنداءات حمدين الديمقراطية عظيم أثر في شارع 30 يونيو أمام الفريق السيسي، خاصة أن حمدين كان قد بصم مقدماً لزحف العسكر على رايات الثورة المشتتة.
وهنا يبدو المشهد المصري أمام عهدٍ جديد في ظل صعودِ ثورة الطلبة متزامنة مع تراجعات عديدة لتحالفات 30 يونيو، وتحول جزءٍ منهم للتمرد عليها، سواء بالتنسيق مع التحالف الوطني المعارض أو بالاستقلال، وفي ظل خسائر تعيشها سلطات مصر الجديدة لم تُقنع أقوى حلفائهم في البيت الخليجي بقدراتهم على سحق ثورة رابعة، بل وجدوا أمامهم وريثا ثوريا جديدا يصعب استيعابه، وهو التمرد الطلابي.
ونُحذر هنا كما حذرنا سابقا من التقييم السريع لتصدع الانقلاب وأنه قاب قوسين أو أدنى من السقوط، كما يردد البعض، ولكن الملموس عدم قدرته على الانتقال السياسي لحكم مصر عبر حلفاء استبداد جُدد، وصعود أمواج مختلفة من الاحتجاجات، وَبَدْء حزب الكنبة -الرأي العام الشعبي البسيط- المُنهك، باستشعار تردي الخدمات وعدم تأثير التمويل الأجنبي لتحسين أوضاع المعيشة والاقتصاديات المتعددة.
هنا تبدو ثورة الطلاب الجديدة في موقع أقوى كثيرا من بدء حركة 25 يناير، ففضلا عن تَجسّدها في فكرة طلاب لمصر وليس لتوجهات محددة، وتأثير القتل المباشر والقمع في صفوفها، فهي تحمل قدرات متعددة، كما هي برامج حركات الرفض الثورية الطلابية في العالم، وأهم هذه العناصر، القدرة على الانتقال إلى المدى الزمني المتوسط للثورة, وتوسعها الأفقي الكبير بحكم تعدد قطاعات الطلاب، وفن إدارة الكفاح الثوري.
وهذا يعني أن خطوات الانقلاب تأتي في اتجاه معاكس بالفعل يخدم خصومه, حين يُشدد قبضته الأمنية ويعصف بكل معايير الوطنية والكرامة الإنسانية، ويُمارس ذلك بتهور واضطراب، فيُعزز عودة الكتلة الشعبية المصرية الملتفة حول الثورة، وهي كتلة نضالية أو تضامنية لا يُشترط فيها أن تكون أغلبية ولا مليونيات.
لكنّها قناعة شعبية تتصلب أمام ممارسات القهر الدموي التي يدفع بها السيسي ومشروع هيكل، عبر استنساخ شخصية عبد الناصر (السيسي)، الذي يقهر خصومه ويرفض الديمقراطية المدنية من خلال شعبيته والكاريزما الكبرى، وهو اندفاع متهور لم يقرأ آفاق التحول المصري بعد ثورة 25 يناير، وأهمه أن هذه الكاريز، ما لم يتأسس لها وقت كاف كما فعل عبد الناصر أثناء حكم الرئيس نجيب وما بعده.
وعليه، فإن هذا القتل والقمع قد يتحول في أي وقت أمام صمود الثورة الطلابية إلى تعزيز وتسريع لعودة الكتلة الشعبية، والزحف بها إلى ميادين الحرية من جديد، لا نعرف متى بالضبط، لكن فَوْجها الكبير حين يتشكّل ويزحف لن يتوقف، فبيادةالعساكر لا تصمد أمام دماء وفدائية الثائر، وحينها فالجيش يعود للشعب لكونه قوة مصر لا هيكل الاستبداد والقهر.
الجزيرة
مهنا الحبيل
السيسي الناصري وعهد الطلبة الثوري 1632