لو أن عابراً أطل على مصر يوم السبت لظن أنها تحتفل بعودة نظام مبارك بأكثر من احتفالها بذكرى 25 يناير. ذلك أن المؤيدين سلطت عليهم كل الأضواء حين احتشدوا في ميدان التحرير. أما المعارضون فقد توزعت أعدادهم بين أقسام الشرطة وأقسام الطوارئ في المستشفيات، والأولون تصدروا الفضاء التليفزيوني، في حين أن الأخيرين لم نسمع أصواتهم إلا من خلال الفضاء الإلكتروني. الأولون قضوا يومهم وهم مؤَمَّنون ومحروسون، حيث ظلوا يهتفون ويرددون الأغاني والزغاريد، ثم عاودوا إلى بيوتهم مبتهجين، أما الآخرون فقد أمضوا يومهم ملاحقين ومطاردين، حيث ظلوا يركضون في الشوارع ويتجنبون الكمائن وطلقات الخرطوش، وأنهوه موزعين بين عربات الشرطة وأقسام الطوارئ في المستشفيات وبعضهم انتهى جثثاً ملفوفة في ثلاجة المشرحة.
المعارضون الذين تظاهروا يوم السبت انضمت إليهم فئات من نوعية مختلفة. هكذا دلت عليهم مواقع التواصل الاجتماعي التي ظلت تتابعهم إلى ما بعد منتصف الليل. كانوا من جنس الذين احتضنهم ميدان التحرير قبل ثلاث سنوات، الذين اكتشفوا أن الميدان أغلق في وجوههم ورحب بآخرين احتضنتهم الشرطة والجيش. أمس بخلت عليهم صحف الصباح بأوصافهم الحقيقية، ونقلت عن بيانات الداخلية وصفهم بأنهم «مثيرو الشغب». متظاهرو الإخوان كانوا مهجوسين بجراحهم، أما تلك المجموعات الجديدة فقد خرجت تبحث عن الثورة أو ما تبقى منها.
الذي حدث قبل الاستفتاء على الدستور تكرر هذه المرة، حين انفتحت كل الآفاق للمؤيدين والمهللين أما الذين أرادوا أن يرفعوا أصواتهم ويقولوا لا فقد منعت ملصقاتهم. ومنهم من تم اقتياده إلى أقسام الشرطة تأديباً له وتهذيباً.
أمضيت الليل أتابع الطرفين.. المؤيدين الذين ملأت صورهم الشاشات التليفزيونية، والمعارضين الذين لم يكن أمامهم سوى أن يبثوا أصواتهم عبر الفضاء الإلكتروني، رأيت في المشهدين بلدين مختلفين، وصورة تجسد عمق الانقسام وحدَّته بين الفرحين المهللين في ميدان التحرير، الذين تحمل إليهم الشرطة والجيش الأعلام والورود، وبين المطاردين في بعض أحياء القاهرة الأخرى، الذى ظلوا يلاحقون بالخرطوش وقنابل الغاز.
وحدها مواقع التواصل الاجتماعي نقلت ما تجاهله التليفزيون وسكتت عنه صحف الصباح. من هذه المواقع عرفنا أن اشتباكات عنيفة حدثت في بلدات ومناطق عدة، في المقدمة منها منطقتا المطرية والألف مسكن بالقاهرة، وأن الحد الأدنى للقتلى تجاوز خمسين شخصاً، في حين أن أحد المواقع تحدث عن تسعين، أما الجرحى فقد ناهزوا الألف والمعتلقون زادوا عليهم قليلاً، نقلت إلينا المواقع أيضا أن ثمة حاجة ملحة للتبرع بالدماء للمصابين في مستشفيات أحمد ماهر وقصر العينى والدمرداش والهلال. وأن مستشفى قصر العينى يناشد المواطنين سرعة التبرع بالدم ابتداءً من التاسعة من صباح الأحد، نظراً لوجود عجز في الأكياس. علمنا أيضاً أن الأمن بسط سيطرته على مستشفيي أحمد ماهر، وإن المصابين الذين نقلوا إلى مستشفيي إمبابة سلموا لأجهزة الأمن، وأن المستشفى الميداني بمنطقة الألف مسكن أعلن عن حاجته لأطباء جرَّاحين في مختلف التخصصات، وأنه يعانى من النقص في الأدوية والمستلزمات الطبية، رأينا أيضاً صورة بثتها وكالة رويترز لأحد الضباط يطلق الرصاص المطاطي على المتظاهرين. كما قرأنا شكوى أحد المحامين الحقوقيين من أنه تعرض للضرب والتهديد بالاعتقال حين ذهب إلى قسم المعادي ليستفسر عن الثوار الذين تم اعتقالهم بعدما خرجوا في مسيرة معارضة. وكان هناك نداء للمحامين المعروفين ناشدهم التوجه إلى قسم قصر النيل للتعرف على أوضاع المعتقلين فيه، لأن المحامين المغمورين يلقون معاملة سيئة ويهددون بالاعتقال. ومع هذه الرسائل بيان لجبهة الدفاع عن المعتقلين تحدث عن سوء معاملة المحامين وبيان آخر لبعض المنظمات الحقوقية أدان الإرهاب. وانتقد الإفراط في استعمال العنف من جانب الشرطة، ونداءات تبحث عن أشخاص مفقودين، وتعليق لأحدهم قال إن الثوار هزموا اليوم (25 يناير 2014) في موقعة الجمل التي رتبها أنصار نظام مبارك في 2 فبراير عام 2011. ونقلت بوابة «الشروق» عن دبلوماسي غربي قوله إننا أبلغنا أصدقاءنا في الخارجية المصرية بأن سياسات الحكومة تضع الذين يريدون الدفاع عنها في موقف صعب. وروى أخرون أنهم كانوا يشترون صور الفريق السيسي لكي يسلموا من اعتداءات أنصاره. وعَّلق على ذلك أحدهم قائلاً بأنه في هذه الحالة كان يتعين على باعة الصور أن يعلنوا عنها قائلين: اشتر عمرك بعشرة جنيهات (ثمن الصورة الملونة).
ما يحير في الأمر أن السلطة المصرية كان يمكن أن تتجنب الفضيحة لو أنها تصرفت على نحو آخر أكثر تسامحاً وسعة في الصدر. لو أنها مثلاً سمحت للمؤيدين والمعارضين بأن يعلنوا مواقفهم وأن تشترط عليهم فقط أن يخرجوا في مسيرات سلمية، وألا يقترب كل منهما من الآخر. وفي هذه الحالة ستعرف أحجام كل طرف، وسيطمئن كل من يهمه الأمر إلى أن مؤيدي السيسي أكثر من معارضيه. في الوقت ذاته فإن الصورة المسيئة التي شاهدها القاصي والداني سوف تحل محلها صورة أخرى أكثر احتراماً وإشراقاً، لكنني أخشى أن يكون ما جرى عودة إلى الطبع القديم. وخشيتى الكبرى أن يكون الأداء الأمني في 25 يناير نموذجاً للسياسة المتبعة في العام الجديد في ظل النظام الجديد، الأمر الذى يعنى أننا «نتقدم» بسرعة إلى الوراء، بقدر ما يعني أن نظام مبارك أثبت حضوره وأن روح الثورة على نظامه كانت الغائب الأكبر في المناسبة.
الشروق
فهمي هويدي
روح الثورة التي غابت 1225