تطرح هذه المقالة ثلاثة أسئلة تتصل بالعدالة الانتقالية في مصر، وهي ما علاقة العدالة الانتقالية بالتحول الديمقراطي؟ وما طبيعة العدالة الانتقالية المنشودة في مصر في ظل الصراع الحالي؟ وما الخطوات اللازمة لتحقيق منظومة عدالة انتقالية متكاملة وضمن حل سياسي شامل؟
حالات التحول الديمقراطي؟
كانت العدالة الانتقالية، في حالات انتقال ديمقراطي أخرى، جزءا أساسيا في نجاح هذه الحالات وخاصة في الدول التي شهدت صراعات مسلحة وحروبا أهلية أو انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان على يد نظم الحكم العسكرية، وكذا في الحالات التي تضعف فيها الثقة في المؤسسة القضائية.
وقد لجأت العديد من الدول إلى هذا الأمر كما في الأرجنتين وتشيلي وبعض دول شرق أوروبا وجنوب أفريقيا وسيراليون، وغيرها.
والفلسفة الأساسية لأي عدالة انتقالية هي أن المستقبل أهم من الماضي، بمعنى أن الهدف ليس معالجة كل حالة انتهاك حدثت في الماضي وإنما ضمان عدم تكرار انتهاكات حقوق الإنسان في المستقبل، بجانب إعادة الثقة في السياسة وفي مؤسسات الدولة الأخرى وعلى رأسها القضاء والشرطة.
وفي مصر تحديداً، هناك حاجة ماسة للتفكير جدياً في نظام للعدالة الانتقالية ولاسيما مع دخول البلاد -بعد ثلاث سنوات من بدء ثورة 25 يناير- في سلسلة من العنف وانتهاكات حقوق الإنسان الواسعة.
والنظام المنشود لا بد أن يكون جزءاً من حل سياسي شامل يضمن اجتياز المراحل الانتقالية وبناء نظام حكم ديمقراطي حقيقي، ويوقف مسلسل العنف.
العدالة الانتقالية بمصر
ولإقامة نظام عدالة انتقالية ناجح في الحالة المصرية يسهم بالفعل في الخروج من الأزمة السياسية الطاحنة، لابد أولاً أن تفهم كافة الأطراف، بما في ذلك المؤسسة العسكرية والإخوان والمؤسسة القضائية، طبيعة وأهداف العدالة الانتقالية، والتي أهمها:
أولاً: لا تستهدف أي منظومة للعدالة الانتقالية محاكمة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان فقط، وإنما تستهدف أيضاً الوصول إلى حل سياسي شامل لصراع سياسي صار من الصعوبة حله بالآليات التقليدية.
وبالتالي فالعدالة الانتقالية تتضمن ترتيبات سياسية أكبر وتشمل ترتيبات قضائية وغير قضائية تستهدف تحقيق المصالحة السياسية، والإصلاح المؤسسي، بجانب كشف الحقيقة ونشرها، وإقامة المحاكمات الجنائية اللازمة.
ثانياً: لا تتم العدالة الانتقالية عبر قنوات العدالة التقليدية نظراً لغياب الثقة في هذه القنوات ودخول بعض القضاة كأطراف في الصراع الدائر.
ولا يعني هذا تجاوز مقتضيات العدالة -كما يخشى كثير من القضاة- وإنما تحقيق العدالة عبر قنوات قضائية خاصة قد تشمل المحاكم المحلية أو الدولية أو الاثنتين معا، وذلك لأسباب محددة وفي ضوء تجارب وخبرات دولية.
ثالثاً: لا يوضع نظام العدالة الانتقالية من قبل أحد طرفي الصراع بشكل منفرد، وإنما لابد من مشاركة الأطراف الرئيسية فيه. وبدون هذه المشاركة سيشهد نظام العدالة الانتقالية مقاومة وعداء بعض الأطراف، كما حدث من الجيش في الأرجنتين عندما عرقل إجراءات العدالة هناك لسنوات.
وبعبارات مباشرة يجب ألا تنفرد الحكومة الحالية بهذا الأمر، لأن هذا الانفراد سيعمق الصراع ولن يساعد على الحل مطلقاً.
رابعاً: من ضمن الأهداف بعيدة المدى للعدالة الانتقالية تعزيز الثقة في مؤسستي القضاء والشرطة وغيرهما من مؤسسات الدولة بعد سنوات من تسييسها والزج بها في الصراعات السياسية، وسيتم هذا عبر إعادة هيكلة وإصلاح هذه المؤسسات وإقامتها على أسس جديدة تماما.
الأمر الذي يعود بالنفع أيضاً على تعزيز النظام الديمقراطي الوليد، وإعادة ثقة الناس بالسياسة والسياسيين بعد سنوات من الصراع.
خامساً: غالبا ما يكون هناك وسطاء وضامنون دوليون أو إقليميون تثق فيهم الأطراف المتصارعة لتقديم الخبرة والدعم المادي في كثير من الحالات.
ولهذا صار للأمم المتحدة اهتمام كبير بالعدالة الانتقالية، وظهرت مؤسسات بحثية معنية بهذا الأمر، وأضحت هناك خبرات دولية متراكمة يمكن الاستفادة منها, وأعتقد أن الحالة المصرية وصلت إلى مرحلة الحاجة إلى خبرات عربية ودولية.
الحل الشامل
صارت انتهاكات حقوق الإنسان، وخاصة بعد 30 يونيو، من الجسامة بحيث لا يمكن تصور نجاح أي مسار ديمقراطي بدون معالجة هذه الانتهاكات وضمان عدم تكرارها في المستقبل.
كما أن المؤسسة القضائية صارت بشكل أو آخر جزءاً من المشهد السياسي منذ الشهور الأولى لثورة 25 يناير، هذا فضلاً عن تعمق الانقسام السياسي على وضع لم تشهد له البلاد مثيلاً من قبل، وعزوف الملايين من المصريين عن الوقوف مع أي من طرفي النزاع.
ولهذا فنظام العدالة الانتقالية المنشود في مصر يستهدف أولاً كشف حقيقة ما تم خلال السنوات الثلاث، ويقيم ثانياً مصالحة سياسية شاملة تضمن عدم إقصاء أي فريق مادام ارتضى العمل السياسي السلمي ضمن قواعد اللعبة الديمقراطية وحكم القانون، بجانب محاكمة مرتكبي الانتهاكات، وإصلاح مؤسسات الدولة وإعادة ثقة الناس في الدولة ومؤسساتها وفي السياسة والسياسيين.
إن العدالة الانتقالية التي تحتاجها مصر الآن تعني التقيد بصيغة لا غالب ولا مغلوب، أي التنازل عن فكرة المباراة الصفرية وسياسات الإقصاء واعتقاد أن الأمور ستستقر لأحد طرفي الصراع.
وهذا يتطلب تنازلات قد تبدو مؤلمة للطرفين لكن لا مفر منها على المدى الطويل، واستمرار الصراع الحالي لن يؤدي إلى اختفاء أحد الطرفين وإنما إلى استمرار سقوط الضحايا من الطرفين وعرقلة مسار بناء دولة القانون والمؤسسات المدنية المنتخبة.
وربما تحتاج الحالة المصرية إلى تدخل بعض الشخصيات العربية والدولية للعمل على تقريب وجهات النظر ومراقبة سير الترتيبات على الأرض، ويمكن تصور الخطوات التالية:
أولاً: إعلان الحكومة الحالية نيتها ترك ملف العدالة الانتقالية للجنة مستقلة تماماً. ولا أعتقد أن هذا يمكن تصوره بدون ضغط شعبي سلمي وتوحيد جهود كل القوى والشخصيات العامة التي تعتقد أننا نسير في الاتجاه الخطأ جراء سياسات الإقصاء والقمع وتصاعد حدة الانقسام والعنف.
ثانياً: تشكيل هذه اللجنة المستقلة من شخصيات مصرية وعربية، وقيامها بالاستماع إلى كافة الأطراف، ثم قيامها بإعداد منظومة عدالة انتقالية متكاملة وخطوات مصالحة شاملة توضع في وثيقة مكتوبة تقوم الأطراف الرئيسية بالتوقيع عليها والتعهد بتنفيذها، مع وضع آلية للمتابعة والمراقبة خلال مرحلة انتقالية جديدة.
ثالثاً: إن قضية كشف الحقيقة وتقديم المتورطين في قضايا القتل وانتهاكات حقوق الإنسان هي المهمة الأولى التي تضمن هدوء ذوي القتلى والجرحى وتخفيف آلامهم.
ويتطلب هذا نشر الحقيقة بشكل شفاف وإجراء محاكمات قضائية في دوائر قضائية خاصة، وتقديم التعويضات المناسبة لأسر الضحايا.
رابعاً: يجب أن تشمل المصالحة الشاملة ترتيبات سياسية تتم بموجبها إعادة البلاد إلى المسار الديمقراطي ووضع ضمانات لعدم التعدي مرة أخرى عليه، بجانب توقف كل سياسات الإقصاء والقمع وإطلاق سراح المعتقلين، ونبذ العنف وتوقف المظاهرات والاحتجاجات من قبل كل الأطراف.
ولابد أن تكون هذه الترتيبات متزامنة بحيث لا يطلب من طرف واحد التنازل بالكامل للطرف الآخر.
فكل الحلول السياسية الناجحة لابد أن تتضمن تنازلات متبادلة، وتهتم بوضع الترتيبات الدستورية والمؤسسية والسياسية التي تضمن التعددية السياسية والممارسة السياسية الناضجة.
خامساً: وفي اعتقادي لابد أن يكون على رأس هذه الترتيبات السياسية تشكيل حكومة تأسيسية انتقالية تشارك فيها كل القوى السياسية على اختلافات توجهاتها الأيديولوجية وبنسب متساوية، أو حكومة من المستقلين التكنوقراط تعمل لفترة انتقالية لا تقل عن ثلاث سنوات، وتستمر بعد انتخاب البرلمان كحكومة انتقالية تأسيسية مهمتها الأساسية التأسيس لدولة ديمقراطية بمؤسسات مدنية منتخبة وإعداد البلاد لمرحلة التنافس في فترة زمنية لاحقة.
سادساً: إعداد قانون توافقي لانتخاب برلمان في أقرب فرصة ممكنة ليتولى مهمة التشريع، على أن توضع ترتيبات انتقالية لهذا البرلمان تتضمن إقرار القوانين بأغلبية خاصة لضمان أكبر قدر من التوافق وتحييد التنافس الحزبي في مرحلة التأسيس والبناء.
سابعاً: تشكيل فرق عمل من خبراء محليين ودوليين تكون تابعة للجنة العدالة الانتقالية، وذلك لتقديم خطط محددة وتفصيلية لإصلاح القطاعات الرئيسية في الدولة وتقديمها للبرلمان فور انتخابه لاستصدار تشريعات تتمتع بشرعية شعبية.
وأتصور أن هذه القطاعات الرئيسية هي: ضمانات المسار الديمقراطي، والقضاء، والشرطة، والإعلام، والاقتصاد، والعلاقات العسكرية المدنية. ويمكن هنا وضع إطار زمني لكل خطة إصلاح في كل قطاع، مع ضرورة الالتزام بأكبر قدر من الشفافية وبآليات محددة للمتابعة.
إن الصراع القائم صراع سياسي ولا يمكن أن ينتهي بغلبة فريق على آخر، ولا مفر من الجلوس معا في مرحلة ما، ووحدها المنظومة القائمة على العدالة ودولة القانون والحريات والتعددية قادرة على بناء المستقبل.
الجزيرة
عبد الفتاح ماضي
مصر والحاجة إلى عدالة انتقالية شاملة 1368