كعجوزٍ شائبةٍ أخذ منها الزمن ما أخذ، شاحبة المظهر والملامح، محودبة الظهر، منكسرة اليد، ذليلة الإرادة، ذهبت اليمن على استحياء إلى لندن.
في مؤتمر ما سُمي بــ "أصدقاء اليمن" انهمرت دموع المرأة المسكينة، وارتمت بكلها بين أيدي شامتين.. بلا مأوى أعيش أنا على أرصفة المدائن تخاطب الحاضرين، أطفالي لا يجدون شربة ماءٍ ولا جرعة حليبٍ ولا علاج داءٍ ولا كساء بردٍ ولا شعلة ضوءٍ تصرخ فيهم.
بلا أمنٍ أنا، أبنائي يتصارعون من أجل البقاء، وكل يومٍ ينزف من دمي على رقعة من أرضي، يُحاول القوي فيهم أن يتغلب على الضعيف فيضعف أحدهم بنظر الآخر ويُخيّل إلى أحدهم أنه يقوى فيما أنا أضعف على الدوام تبكي الأم في القوم.
ينبري أحدهم بصوتٍ غليظ انتظري هناك بجوار الباب حتى يأتيك فتات القوم.
تصرخ فيهم بجاه الله "ارحموني".. يقوم أحدهم من وسط الحاضرين تبدوا عليه أثر النعمة، يلبس الأبيض فيما قلبه أسود من سواد ما يلبسه فوق غطاء رأسه.. تستبشر المسكينة هذا أعرفه إنه جاري، بكل تأكيد سيكون سنداً لي، يأتيها الصوت الذي لم تتوقعه.. ابتعدي عنّي ماذا تريدين!!؟ ذوقي الموت والهوان.. تستحقين ما أنتِ فيه.
ــ يا الله ما الذي فعلت!!؟
ــ ألم أقل لك لا تثورين.
ــ ثُرتُ من أجل هذا العيش السحيق الذي أنا فيه.. ثُرتُ لأتخلص من الذل والهوان.. ثُرتُ من أجل أن نكون جميعنا أقوياء.. ثُرتُ لأعيش كما تعيشون.
يحاول الخبيثُ ابتزازها:
إذا تريدين بقايا "فتات" فتعالي إليّ.. لبّي كل رغباتي، عيشي منكسرة ذليلة حتى يأتيك مخلفات ترفي، إياكِ أن ترفعي رأسكِ أو تحلمين بعيشٍ كريم.. ستكونين على ما أريد، ولا إرادة لكِ من دوني.
تستأذن ولي أمرها أن ترضخ له، فيصمت وحين لم يأتيها جواباً منه تذهب لأخيها الأكبر فتشرح له تفاصيل ما دار فيبكي ويبكي ويبكي، ويكتفي بالبكاء، أبناءها جميعهم يتضورون جوعاً ولا يهم عندهم بأي كيفية يأتيهم الخلاص.
تقرر هي الصمود بعض الوقت، لكن أبناءها لا يقوون على الصمود في وجه الجوع والعطش، وانعدام وسائل الحياة... "ولي الأمر" يناور في بعض كرامته، فتمتهان سيادة مسؤوليته، فيما "الجار" يكتفي برمي بعض الفتات لهم ويعود إلى القطيعة والحرمان مرة أخرى.
اشتكت المسكينة "لا جار ولا غريب، ولا قريب ولا بعيد.. فمن لي يا الله ؟ "
تخاطب نفسها: أنا من أهديتُ "سليمان" وهو في غنى عن هديتي.. أنا من سدت العالم وتكرمت عليهم، أنا أصل العروبة وموطن الإنسان.. يا هؤلاء "ارحموا عزيز قومٍ ذل" تبكي ولا مغيث.
من في المكان يوافقون على إعطاءها بشرط تسليم نفسها لهم، تسليم إرادتها وقرارها وسيادتها وكرامتها وكل شيء يتعلق بها.
تبكي.. تئن.. تصرخ، وفي النهاية تستسلم وتُسلم نفسها لهم بلا شروط في حضرة ولي أمرها "الصامت" وأخوها الباكي وأبناءها المتصارعون.
تضع يدها على رأسها وتدخل في سربٍ من أحلام.. يأتيها صدى صوت من بعيد انفضي عنكِ يا أماه غُبار العار والذل وافخري بنفسك فأنتِ اليمن فيك الخير، علمّي أباكِ دروس الحرية والتضحية والمسؤولية والوطنية واهمسي في أذن أخيك الأكبر بان "البكاء لا يكفي"، بعض أبناءك دعيهم تحت الإقامة الجبرية ولا تترددي في ايداع بعضاً منهم في السجون، وبادري في إعلان جزءاً منهم ضمن لائحة الإرهابيين، وربّي بقية ابناءك تربية الإباء والعمل والبناء واعتدّي بنفسك وحينها لن تلجئين لأحد، ولن ترضخين لأحد، ولن تُهان من أحد، وستعودين "سعيدةً " من جديد.
محمد محروس
اليمن منكسرة على أرصفة لندن..!! 1296