الإهداء إلى: بقايا وجود حي
( 1 )
" نعيمة ".. هذا ليس اسم فتاة شقراء حسناء تتمايل في أرصفة " شارع العدين " بإب أمام نظرات المعجبين .. كما أنها ليست حارة عتيقة ضاربة الجذور في أعماق التاريخ داخل المدينة..
" نعيمة " هذه قرية متوسطة مبعثرة في ادنى مديرية الظهار " قلب إب " لا تشرق شمس الصباح فيها إلا بمزاجية مفرطة كما لا تغيب عنها ألا بعد أن تمل الوقوف على أعتابها..
برد العالم يغادر أدراجه فيما يبقى في " نعيمة "لأيام يمارس طقوسه في صباحات الظل وساعات الانزياح الأولى..
في " نعيمة " تشعر انك في منفى إجباري وانك مهما مكثت طويلا تعد واحدا من الغرباء بيد أن الكل في المحصلة غرباء ويعانون عزلة اجتماعية رهيبة وشبح المدنية والتوسع العمراني الحضري يغزو المنطقة وسيحطم حاجز العزلة ..
القرويون هناك ممسوحون بالمدنية بيد أنها بعيدة عنهم ليس جغرافيا وإنما سلوكا وممارسة ويبدو من تعاملاتهم انهم بدائيون من الداخل وهذا ربما نجم عن صلف واستبداد اجتماعي ماضوي وارث قديم لا يبدو انه سيغادر ذهنية البشر هناك ...
تحن في " نعيمة "إلى قليل من اللياقة و الإتكيت العام .. تتمنى من أعماقك أن تجد احدهم يصدقك المشاعر .. القليل فقط الذين تشعر بالحميمية تجاههم فيما يبقى الأخر متمترساً وراء الكراهية وتصيد الأخطاء ..
كان علينا الدخول في تخوم " نعيمة " والتوغل فيها بسبب الالتزام الوظيفي والتدريس في مدرستها القشيبة .. قضينا أياماً هناك نقاوم صلف الملل وساعات السأم .. داهمتنا لحظات اليأس كثيرا .. حاصرنا الإحساس بضياع العمر وسط تلك البؤرة السحيقة وبين دفتي ذلك الوادي السحيق الممزوج بالبنايات وشجيرات القات والذرة والطلح وشجرة " السدر " والأخيرة كانت تسبب لي إزعاجاً داخل أروقة المدرسة جراء رمي التلاميذ حباتها في الطرقات المؤدية للصفوف ..
دلفنا مدرسة المنطقة والشوق يحدونا إلى صنع المستحيل .. كنا نتطلع إلى إنجاز تاريخي هناك لا سيما وتلاميذ المدرسة مبدعين وعباقرة وعلى قدر كبير من التميز .. بين ردهات تلك المدرسة الفتية كنا نحلم أن نصل إلى مستوى النموذجية وان نواكب تطور وتقدم اكبر مدارس المحافظة لكننا فوجئنا بحائط كبير من المثبطات يتمثل بالمحيط الاجتماعي الذي يعاني موات ثقافي معلن يشكل وباءً جمعياً الكل مصاب بعدواه..
هناك شروخات بالنسيج الاجتماعي بالمنطقة وهو ما يبرز حالة من تباين في المواقف وهذه هي الإيجابية الوحيدة " للأسف "..
تحضر " نعيمة " في مخيلتي كلما لاح في الأفق بصيص انفراج إذ أن الأشياء هنا جامدة ولا يعتريها أي تغير يذكر .. اشعر بان ثمة خطأ ارتكبته ذات نهار واني بهذا أسدد فاتورة حماقتي .. كنت قد قررت السفر واجتثاث الهم القابع في رأسي قبل نزول الأمر الإلهي والمصير المحتوم لكن يبدو أن هناك أشياء قدرية تملي على البشر توجهاتهم وتحدد مصيرهم ..
في " نعيمة " لا تحاول رفد الواقع البائس بجرعات امل فالأخر يتربص بك ويصنفك في قائمة أعدائه بلا ادنى سبب .. لا جدوى هنا من محاولة رفع سقف التفكير والارتقاء الوجودي فثمة عقليات هنا ما تزال محكومة بنمط ماضوي عبثي عشوائي ..
القرويون جيدون في تصيد أخطاء الآخرين وهم عادة ما يلوكونها في مقايلهم لكن بالمقابل هم لا يقدرون عظمة الأشياء إلا عندما تغادر حياتهم ليندبوا حظهم في نهاية المطاف ويتحولون إلى ضحية فيما هم عكس ذلك تماما ..
هذا المكان حاصرنا كثيرا واثقل كاهلنا بنوازع الشك والريبة من الأخر وبتنا نتأثر مع مرور الوقت ولم نعد نثق بأحد واضحى نمط تفكيرنا مشوب بطرائق لا أخلاقية ولا تنم عن سلوك حضري البته ..
اقل ما يمكن أن نطلق على تلك الأيام التي بددناها هناك بأيام البؤس فكل حواري المنطقة تكاد تكون بنفس العقلية بل أن بعض المناطق تتميز بكونها منجم كبير لتشرذم والتعصب ورواج ثقافة التصلب والانهيار القيمي و ما يثير الدهشة والاستغراب انه كلما أحسست بشعور النبل والأخوة مع احدهم تكتشف وفي أي منطقة من الرقعة الجغرافية هناك أن له وجه أخر شديد الرعب والإبهام...
سنطلق هنا صرخة وداع مدوية للتاريخ والذكرى لمدرسة أحببناها وألفناها وأحببنا طلابها الرائعين .. لكننا لم ولن نحب أهلها قط وانى ذلك أن يحدث ونحن نرى زيفهم وأقنعتهم البلاستيكية التي تعرت ذات نهار شتائي بارد وكشفت مالم يخطر على البال.. لقد كرس نمط التعامل الاجتماعي السائد هناك في أعماقنا حقيقة انك في هذا العالم الواسع لوحدك.. لذا قاوم وجودك مهما كلفك الأمر.
هذه تجربة مريرة فما أسوأ أن تكتشف ذات صباح قاتم أن جميع من يحيط بك مجموعة من الأوغاد وانك تمور في دنيا يبتزها الاسفاف والتواطؤ الجمعي..
في الطريق إلى " نعيمة " ثمة صخور كأداء وطريق ترابي وأشواك وثمة أيضاً كائنات تقف إلى جانبي الطريق تمارس فعل الانمحاء والتلاشي والتجرد القيمي .. ماذا يستفيد كائن من قذف عبارات تهكمية حيال ضيف عبر مضطرا ؟؟ من أي صنف جاء هؤلاء القوم .. ما هي عجينة أولئك البشر؟؟.
تبدد ازهى أيامك في غفلة المحنطين على وهم البطولة الزائفة .. أولئك الماثلون على مقصلة الفراغ .. المستأنسون بانحياز الزمن المرقع بالصفاقة القاتلة ...الذاهبون على صفيح العمر الآسن في محراب المجهول .
في الطريق إلى " نعيمة " تكتشف ماهية الزيف .. كنه الأشياء البراقة .. حقيقة الوجوه ..مأل وطن ذاهب صوب المجهول .. " كيف لا " وجيل لا يزال يراوح في المربعات الضيقة ولا يبدو علية التأقلم مع حاضر أمة ومستقبل وطن.
لقد ترسخت في دواخلنا قناعات انه فور مغادرتك الطريق المعبد وولوجك الطريق الترابي فاترك بقايا مدنيتك هناك فهي غير صالحة البتة في تلك المنطقة ..
سيذكر التاريخ ملامح المناطق وهي مضرجة بأوجاع الحقائق وسيتوارث البشر سلسلة القيم السامية ومعادن الرجال الأسوياء وستكبر المساحات البيضاء ويرتقي الحلم وترنو الأمنيات إلى الجيل القادم في صنع المجد الاثيل لهذا الوطن الغريب...
في تاريخ المدائن والمناطق والدول ما يجب أن يوثق حتى يكون مفخرة لحقبة زمنية وفي تاريخ البعض ما هو شائن وينبغي ردمة حتى لا تفوح روائحه النتنة ..لكنة التاريخ كائن عنيد لا يرحم يدون كل مجريات الزمن ويسجل إرهاصات الأيام ولي في أيام قادمة استقصاء مكامن الفرح والحزن والنجاح والإخفاق وأيام بؤس أخرى في حضرة " نعيمة ".
بعد عامين أو ربما ثلاثة أو ربما اكثر ستكون " نعيمة " ضرباً من ضروب الماضي في روزنامة تاريخنا المتواضع ومن يدري لربما ستكون محطة فارقة لن تتكرر ورحلة إلهامية إضافة لرصيدنا الكثير..
نشوان النظاري
أيام نعيمة..! 1550