القارئ المتمعن بالعقيدة العسكرية الصهيونية بعد غياب أرائيل شارون يدرك أن العدو الصهيوني يشن هجماته على غزة كحالة تصدير أزمات، أو ما يمكن إطلاق عليها تحرش إبادة، فهو يدرك تمام الإدراك أنه لم ينل من عضد وقوة المقاومة الفلسطينية التي تخرج بعد كل جولة من الجولات أكثر تنظيما، وخبرة، وتعظم قدراتها العسكرية بصورة ربما تفاجئ العدو وأجهزته الاستخباراتية، وإن كنت ممن يسقطون هذا الخيار أو الاعتبار بما أن العدو يدرك ويعلم جيدًا أن خلف المقاومة الفلسطينية قوى إقليمية تملتك من التقنيات العسكرية الكثير، وقد أدرك ذلك من اختباراته مع حزب الله اللبناني، حيث أن مصدر المقاومة الفلسطينية نفس مصدر حزب الله في التسليح والتدريب، والتكتيك، والاستراتيجية العسكرية، ورغم ذلك فهو يتحرش بغزة بين الفينة والأخرى مبررًا هجماته بالعديد من المبررات الوهمية التي يلجأ إليها، ليتمكن من تصدير أزماته الداخلية، فالعدو وكيانه اليوم هو أخطر المراحل من حيث الأزمات الداخلية، وأصبح يعيش في واقع إقليمي متقلب هيلامي، تقوده العشوائية والتخبط الاستراتيجي في مطبخ السياسات الاستعمارية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية العاجزة حتى راهن اللحظة بالخروج بتصور نهائي لحالة الأقلمة في منطقة الشرق الأوسط، وإن كانت نجحت في صناعة الفوضى، وغيبت وجود للدولة المنظمة، كما فعلت بمصر وسوريا وليبيا واليمن وتونس وبعض الدول التي شهدت حرّاك لم يتخذ الطابع الملمحي المنظم كما في الدول سالفة الذكر.
من هنا فإن الحرب أو المحرقة الفعلية التي يشنها العدو الصهيوني ضد غزة في هذه الأيام لم تدخل حيز التخوف من أن تكون حرب تحريكية، فالتحليل السياسي المنطقي يستند على عوامل التأريخ القريب، ويدرس بعمق سلوك وعقيدة الكيان منذ عدة سنوات، فالمنطقة برمتها لم تشهد أي حرب تحريكية سياسية سوى حرب 1973 والتي من خلالها استطاعت تحريك الحالة من صراع عربي - صهيوني، إلى صراع فلسطيني - صهيوني، حيث نفضت مصر يدها من الصراع، ولحقت بها دول الخليج، ودول الطوق أو المواجهة، وتركت الفلسطينيين يواجهوا الصراع بفلسطنة محضة، وعمقت الفهم لدى الشعوب العربي أن الثورة الفلسطينية تتدخل في الشأن العربي كما فعلت بالكويت والعراق، ومصر وسوريا أخيرًا، وعمق من هذا الفهم أخطاء بعض القوى الفلسطينية التي تتصرف وفق منطلقاتها ورؤياها السياسية الضيقة.. كما أن حرب 1982 لم تكن بأي حال حربا تحريكية، فهي لم تحرك الحالة السياسية سوى بعدما شهدت المنطقة متغيرات جذرية ساهمت في خلق انطباع بأن حرب 1982 كانت حرب تحريكية سياسية، ولكن ما ساهم في خلق هذا الانطباع هو انهيار الكتلة الشرقية والفارق الزمني طويل نسبيًا، واجتياح العراق للكويت وما تبعها من نتائج ومتغيرات، فرضت على القيادة الفلسطينية حالة رعب أدت بها للخضوع إلى الحرّاك السياسي المفروض عنوة عليها، وهو ما يدحض أي تحليل أو رؤية سياسية بأن الكيان وقواه يشنوا حروبا تحريكية، فهو لا يحتاج للتدخل العسكري ليحرك الواقعية السياسية بما أنه يمتلك أدوات مختلفة ومغايرة، كما أن خلفه مؤسسات دولية، ودول استعمارية كبرى، بل وقوى عربية تمتلك أدوات ضغط على الفلسطينيين أكثر بكثير من الاحتلال وأدواته، وهو الفعل العربي الذي مورس ضد القيادة الفلسطينية في العقد التاسع من القرن الماضي، وكانت آثاره واضحة جلية، ولذلك فالكيان يشن محارقه وحروبه ضد غزة بعيدًا عن الفهم التحريكي السياسي، وإن كان يستهدف الضغط على القوى الفلسطينية الوليدة كحماس والجهاد الإسلامي لإقحامها في المربع الذي أقحم فيه حركة فتح سابقًا وجردها من الكثير من أدواتها النضالية والكفاحية، وأوشك أن يدفعها لمربع الإعلان عن نفسها حزب سلطة وحركة سياسية فقط، وهو ما فشل خلال انتفاضة الأقصى وعادت فتح لتنتهج سياستها النضالية مع جيل قيادي شاب جدد معتقدات الحركة ونهجها السابق.
كما وأن العدو يدرك أن المعادلة الفلسطينية اختلفت عن السابق، حيث أن المقاومة الفلسطينية اليوم تنطلق من قاعدة بالوطن، ولم تعد الدول العربية والقواعد الخارجية تفرض عوائق على تحركها وصلابتها، كما حدث لها في الأردن، ولبنان، حيث تعرضت المقاومة الفلسطينية لانتكاسات كبرى من خلال تعرضها للتشريد والتهجير والحصار والتضيق وهو ما تفشل فيه بعض الدول العربية حاليًا، رغم أن المقاومة الفلسطينية تنطلق من وطنها ومن بين جماهيرها، إلَّا أن هناك من محاصرتها ومحاولة تقزيمها، بل وتحريض الشعوب العربية عليها، كما يدرك العدو أن المقاومة الفلسطينية أصبحت تمتلك منظومة استراتيجية نضالية وأدوات كفاحية وقواعد متينة لا يمكن اختراقها أو ضربها كما كان يفعل بالسابق، من حيث القوى العسكرية، والقوى البشرية، وأيمانه المطلق بأن لدى الشعب الفلسطيني جيل أصبح يؤمن بالإطلاق أن معركته مع هذا العدو معركة وجود وليس حدود، وأن معركته الفعلية لم تبدأ بعد، وأن جل المشاريع السياسية لم تعد ذو جدوى نتيجة سياسات هذا العدو ومنهجيته العدوانية.. وهو ما يبرز من خلال همجيته ومحرقته ضد المنازل والأطفال والشاب الفلسطيني، ليس في غزة وحدها بل وفي الضفة الغربية كذلك ولكن بأساليب وأدوات مغايرة حسب الظروف والتضاريس الجغرافية والسياسية.
وهذا لا ينفي بالطبع أن هناك حرّاك سياسي إقليمي تسعى إليه بعض القوى الإقليمية ومحاولات الجذب والمصالح لهذه القوى، ولكنه لن يكون من خلال هذه المحرقة الصهيونية لأن لا زالت أوراق المنطقة مبعثرة، والقوى الإقليمية تتجاذب فيما بينها هذه الأوراق، فلا زالت مصر تتبعثر أوراقها رغم انتخاب الرئيس الجديد، ولا زالت سوريا جريحة، وكذلك ليبيا، وتطل من هناك الأوضاع في السودان واليمن والعراق.. كل هذه الأحداث تؤكد أن ما يقوم به الكيان ما هو سوى جولة جديدة من جولاته التي يصدر من خلالها أزماته الداخلية في غزة التي تعتبر بوابته لتغيير مساحات الرأي العام الصهيوني.
د.سامي الأخرس
غزة حرب جديدة وليس تحريكية 1447