كل شيء يبدو مقلوبا في موقف مصر من القضية الفلسطينية هذه الأيام، ويبدو أن هذا شيء منطقي تماما، لأن النظام الحاكم في القاهرة جاء به انقلاب عسكري عار من الشرعية وإن صام وصلى وزعم أنه شرعي!
فهذا النظام يحكم مصر منكوسا، ويفهم الأمور منكوسا، ويخطب ويلقي بياناته منكوسا، ويتخذ القرارات منكوسا، والمنكوس دائما يرى العالي سافلا والسافل عاليا، أو العدو صديقا والصديق عدوا.
وبقدر ما قد يبدو في هذا التصوير من فكاهة، فإن فيه قدرا أكبر من المرارة للأسف الشديد، فمصر منذ قرون طويلة تدافع عن فلسطين دفاع اليد اليمنى عن يسراها، والشام تحالف مصر منذ أمد بعيد حلف العينين لأذنيهما والقلب لكبده، وتشتركان في مصير يضع إحداهما في عين الخطر إن أصاب الأخرى منه شيء.
وقد كان هذا لمصر والشام قدَر الجغرافيا قديما ومنذ آماد بعيدة، ثم مع الزمن وخلال القرون صار قدر الجغرافيا والتاريخ والدين والثقافة واللغة، فإذا جاء من يناقض ذلك، أو يتخذ من المواقف ما لا يتفق معه، اليومَ أو غدا أو في أي وقت كان، فهو منكوس مقلوب لا يرى الأشياء إلا على هيئته الخطأ التي هو عليها.
ولن نبالغ -لهذا السبب- إذا قلنا: إن انقلاب السيسي لم يكن انقلابا على الشرعية في مصر وحدها، ولا إلغاء للمسار الديمقراطي في الكنانة فقط، بل كان انقلابا على الحريات في العالم العربي كله، ونُصرةً للاستبداد والديكتاتورية وتكميمِ أفواه الشعوب في أكثر أنحائه، وانقلابا على قضايا العرب الأساسية، خاصة القضية الفلسطينية.
وتؤكد هذا المواقفُ لا الادعاءات، فحرب غزة شهدت تواطؤا انقلابيا منكوسا من القاهرة مع إسرائيل تواترت به الأنباء من قلب تل أبيب نفسها، وإن ادعى إعلام الانقلابيين ومن والاهم غير ذلك، وبعد أن هدأت المدافع والقنابل لم يخفّ انحياز القاهرة المريضة إلى جانب نتنياهو وآلته العسكرية العاجزة، بل لعله زاد عما كان، وهو ما شكا منه بعض الإسرائيليين أنفسهم، ورأوا أنه يعوق التوصل إلى اتفاق لوقف دائم لإطلاق النار.
تعبت إسرائيل من الحرب هذه المرة بالفعل، برغم مكابرة بعض الساسة الإسرائيليين وعنجهيتهم، وأقنعتها الوقائع أنها غير قادرة على الانتصار على غزة الآن على الأقل، فلم تكابر، واعترفت بالواقع المُر، ورأت أنه لابد من العودة لتدارس الموقف بجدية وهدوء، فأزيز المدافع ليس واقعا مناسبا للبحث المتأني في الواقع الجديد الذي لم تتوقعه تل أبيب ولم تعمل له حسابا.
لكن كانت للجانب المصري حسابات أخرى، لا تتمثل فقط في استهداف حركة حماس بسبب الاشتراك الفكري بينها وبين إخوان مصر أكبر خصوم الانقلاب الداخليين، ولكن خشي حكم الانقلاب إن وافقت إسرائيل على شروط الفلسطينيين في الميناء والمطار أن يخرج من المعادلة تماما، فيفقد الأوراق التي يلعب بها ضد خصومه في غزة الذين لا شك أنهم في نظره امتداد خطير لإخوان مصر.
إن تعنت القاهرة في ظل الانقلاب مع الوفد الفلسطيني، وبالتحديد مع ممثلي فصائل المقاومة فيه يمتد في رحم الموقف العام والأطراف الفاعلة فيه محاولا الحيلولة دون التأثير في موقع مصر من القضية، حيث تتعرض لانتزاع ما في يدها من مفاتيح لها خطورتها في حسم القضايا المتعلقة بغزة ومقاومتها.
وقد عبرت عن فداحة ذلك بالنسبة لمصر تغريدة فلسطينية طريفة تقول: في حال التوصل إلى اتفاق يعطينا حقنا في الميناء والمطار، أقترح أن يتجمع أهل القطاع أمام معبر رفح، ويبصقوا جميعا على حراسه ومن وراء حراسه، ويرجعوا أعزة، فقد استغنوا عن المعبر الخانق!
نعم، إنها بصقة الطرد المهين من المشهد، والإبعاد المزري من قضية لم تغب صورة مصر عنها، وليس حتى الانسحاب الحر أو السلبية المتعمدة أو التواطؤ السري الذي كان يتبعه نظام حسني مبارك مع غزة وقضية فلسطين عموما.
ومع أن الميناء والمطار لن يكونا حلا نهائيا لمشكلات القطاع، لأن إسرائيل ستظل بقوتها العسكرية البحرية والجوية مهددا خطيرا لهما، إلا أن الاستغناء الفلسطيني ولو مؤقتا عن دور القاهرة سيكون ضربة مؤثرة للانقلاب الذي لم تصل إليه ضربة قاضية من معارضيه إلى الآن، إلا أن تراكم الضربات الصغيرة والمتوسطة عليه -مثل فوز أردوغان برئاسة تركيا وانتصار غزة على إسرائيل عسكريا ثم سياسيا ودبلوماسيا ورسوخ التجربة الديمقراطية في تونس وهزيمة حفتر في ليبيا- قد تمهد الطريق كثيرا لذهاب ريح الانقلاب.
كاتب مصري
نبيل الفولي
لماذا يعوق انقلابيو مصر اتفاقا لصالح غزة؟ 1479