يبدو أن سخونة الأجواء في المعسكر الخليجي قد عادت من جديد بعدما أعلنت اللجنة المنبثقة عن وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي عن عدم جدية قطر في تنفيذ القرارات التي خلص إليها المجلس شهر أبريل الماضي.
ويعود الصراع الخليجي ـ الخليجي إلى الرابع من شهر مارس الماضي، حينما أعلنت السعودية و الإمارات و البحرين عن سحب سفرائها من الدوحة، وذلك بعد اتخاذها لكل الخطوات اللازمة لترميم الشرخ الذي خلفته السياسة الخارجية القطرية على وحدة مجلس التعاون.
هذا الإعلان المشترك، جاء نتاج لسياسة خارجية قطرية مبنية على تضارب في المصالح مع دول المجلس، بل وصل إلى حد التضاد مع بعض القوى الكبرى و اللعب على الحبال.
أولى محطات التصادم تجلت في التطبيع المباشر و العلني لقطر في علاقاتها مع إسرائيل، واحتضانها في نفس الوقت لزعماء حركة حماس في بلادها و تمويلهم في العديد من المرات، ما جعل دول المجلس ترفض مسألة التطبيع العلني، لتعود هذه الدول وتقف موقفا متناقضا بدعمها للعدو الإسرائيلي في عدوانه على غزة.
ثاني المحطات، تمثلت في نهج قطر لسياسة موازية ما بين السعودية و إيران، فتارة نجدها في الجانب السعودي و تارة أخرى توسع الشراكات الاستراتيجية مع إيران مع تبادل الزيارات على أعلى مستوى ـ وهو ما كان يثير سخط الرياض ـ إلى حدود سنة 2011 و مجيء ما سمي بالربيع العربي، لينقطع حبل الود بين طهران و الدوحة بسبب دعم الأخيرة للثوار ماديا و عسكريا و لوجيستيكيا في أحد أهم مراكز النفوذ الإيراني بالمنطقة العربية و هي سوريا.
كما كان الربيع العربي آخر محطات الوفاق مع السعودية و الإمارات و البحرين، و ذلك بسبب نهج الدوحة لسياسية خارجية مغايرة لدول المجلس، عن طريق دعمها لتنظيم الإخوان المسلمين عكس أهواء جيرانها وفي تعارض تام مع سياساتهم في مصر و سوريا و ليبيا و تونس، معتبرة أن المكون الإسلامي ضروري وأن أي قوة يجب أن تتعامل معه.
وعليه، يمكن أن نقول أن الدول الصغيرة – مثل قطر – لا تتأثر سياستها الخارجية بما هو إيديولوجي بقدر ما يغلب عليها الطابع البراغماتي، حيث تعمل على استثمار تحالفاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق أمنها الإقليمي، و تقبل بأن توظف من قبل القوى العظمى على أساس استثمارها لعلاقاتها معهم فيما بعد لتحقيق أهدافها.
ونعلم جيدا أن صانعي القرار بالدوحة يغلب على توجهاتهم الاستراتيجية بالمنطقة، هاجسين أساسيين:
ـ تخوف قطر من تكرار السيناريو العراقي ـ الكويتي لسنة 1991، ما يدفعها للتميز في سياستها الخارجية عن السعودية، و اتخاذ موقف معارضة لها في أغلب الأحيان للتنصل من أي سيطرة للرياض على الدوحة، و التاريخ خير شاهد على ما نقول، إذ أنها تحالفت سنة 1916 مع بريطانيا لمواجهة الطموحات السعودية.
ـ محاولتها الخروج من بين فكي كماشة محور الصراع السعودي ـ الإيراني، حيث حكمت عليها جغرافيتها الضيقة ما بين قوتين إقليميتين متعارضتين، و بعدد محدود من السكان و مقدرات طاقية ضخمة، أن تكون محطة أطماع، ما يجعلنا نقول أن حالتها الجيوسياسية تحكم تناقضاتها السياسية، و هو ما ترجم بتقديمها قاعدة “العيديد” لسلاح الجو الأمريكي عام 2003، في مسعى منها لحماية أمنها في مواجهة كل من طهران و الرياض.
لقد أدركت قطر جيدا موازين القوى و تحاول التحرك في المساحة التي أتيحت لها، إلا أنها أصبحت تتجاوز الحدود المسموح باللعب فيها؛ فمثلا بعد استضافتها القوات الأمريكية إبان غزو العراق، ما فتئت تعري الجيش الأمريكي و انتهاكاته في بلاد الرافدين عن طريق قناة الجزيرة الإخبارية، و هو ما أثار حفيظة واشنطن.
و بلغت قمة التناقضات في السياسة الخارجية القطرية، حينما توجهت قبل الربيع العربي نحو التحالف مع محور الممانعة “إيران، سوريا، حزب الله”، ومن ثم تحولت إلى أشد المناهضين لهذا المحور عن طريق تبنيها خيارا استراتيجياً لدعم الإسلام السياسي بمنطقة الشرق الأوسط.
و لعل خير توصيف للسكيزوفرينيا التي تعاني منها السياسة القطرية، هو ما عبر عنه وزير الخارجية الأمريكي “جون كيري”حينما كان سيناتورا، بقوله: “لا يمكن لقطر أن تكون حليفا لأميركا يوم الاثنين ثم ترسل المال إلى حماس يوم الثلاثاء”.
يبدو أن أمير قطر تميم بن حمد أل ثاني، و سابقه حمد بن خليفة أل ثاني، بالغا في حساباتهما بالتركيز على قوتهم الاقتصادية و الإعلامية و دبلوماسيتهم الناعمة، متناسين أن الخلل في مرتكزات السياسة الخارجية لبلادهم، المتمثل في الجغرافيا الضيقة و عدد السكان (80% من الأجانب) و الضعف العسكري، لا تؤهلهم للعب أدوار مركزية أكثر فاعلية.
من خلال كل ما سبق، نرى أن خسارة قطر لعلاقاتها بالدول المحيطة بها، باستثناء تركيا، سيفرض عليها منطق جديد مبني على الرضوخ للأمر الواقع، و العودة لكنف مجلس التعاون الخليجي في أسرع وقت، مع التخفيض من طموحاتها المبالغ فيها للعب دور إقليمي و دولي كبير، قصد الحفاظ على وحدة المجلس و الوقوف في وجه ما يسمونه بالخطر الشيعي !!
هي السياسة الدولية، لا تعترف سوى بالقوي، فإن تكون قوياً اقتصادياً مع ضعف جيوسياسي رهيب و خطر ديموغرافي داخلي و غياب لجهاز عسكري قوي، يفرض التموضع قدر الإمكانيات المتاحة، وهذا هو حال قطر اليوم.
*كاتب مغربي
سامي السلامي
قطر..من البراغماتية السياسية إلى العزلة الإقليمية 1536