التطورات الأخيرة في اليمن التي انتهت إلى سيطرة جماعة الحوثي المسلح على العاصمة ومناطق شاسعة، تعرض هذا البلد العربي ليلتحق بعدد من دول المشرق العربي المبتلية بمشاريع التطرف والتمذهب التي تهدد بتفسخ المجتمعات وبتحلل الدولة بمفهومها الوطني الجامع .
الوضع في دولة بحجم اليمن قد يكون مختلفاً نسبياً عن دول المشرق العربي، لاسيما من ناحية المؤشرات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية التي تعد في قاع المستويات عالمياً. ولئن بقيت تلك المؤشرات مكانها في السنوات الثلاث الأخيرة تحت حجب الصراعات العسكرية والسياسية، بيد أن النتائج التي آلت إليها التطورات، وتداعياتها المحتملة الطويلة الأجل، ستخلف مآسٍ إنسانية غير مسبوقة العالم العربي وتستدعي التنبه إليها منذ الآن.
المسح الأخير الذي أعده برنامج الغذاء العالمي ومنظمة (يونيسف) التابعة للأمم المتحدة الذي يصدر كل سنتين وأعلنت نتائجه في يوليو/تموز ،2014 أظهر أرقاماً مخيفة تتصل بالأمن الغذائي وسوء التغذية هي الأعلى عالمياً. أكثر من 10 ملايين مواطن أي أكثر من 40% من السكان "لا يملكون ما يؤمّن وجبتهم التالية". وفي اليمن أعلى معدل من الأطفال دون الخامسة في العالم يعانون سوء تغذية مزمناً، "الأمر الذي يحتم التدخل العاجل" على ما أوصى التقرير. "41%" من السكان ينعدم لديهم الأمن الغذائي. ويلحظ التقرير ارتفاع هذه النسبة في محافظة صعدة (معقل الحوثيين الذين اصبحوا في صنعاء الآن) إلى 70% . ومن بين 5 .4 مليون طفل يعاني أكثر من طفلين من كل خمس حالات تقزم وتراجع نموهم العقلي والذهني! هذا بعض يسير من التقرير. وشمل المسح عشرة آلاف مقابلة و14 ألف امرأة و13 ألف طفل من 22 محافظة يمنية. بقي أن المسح والتقرير أنجزا بالتنسيق مع مؤسسة الإحصاء اليمنية الحكومية.
نعم، كل ما ورد نتائج وليس أسباباً.. "29 عاماً" من حكم شبه مطلق للنظام السابق راكم تلك المآسي الفظيعة. هكذا فعلت كل الأنظمة العسكرية التي تناوبت على الحكم في الدول العربية وثارت عليها شعوبها، وقد عزّ عليها الرغيف وحبة الدواء والعلم، لتقبع في قعر المؤشرات الإنسانية في العالم. ولو تفاوتت المستويات بين بلد وآخر. ليست القضية في الموارد. ولا في الثروات. بل في المناهج والسياسات الحكومية وفي إرادات الشعوب أيضاً. اليمن ليس محروماً من الموارد والثروة؛ لديه موارد النفط والغاز والمعادن والأراضي الزراعية الخصبة المؤهلة لتأمين الأمن الغذائي وكفاية اليمنيين والتصدير إلى الخارج ولديه إمكانات سياحية وتراثية كبيرة في الحضر والريف وامتداداً إلى مئات الجزر في الساحل وفيه ثروة سمكية هائلة . 2800 كيلومتر من مصائد الأسماك على سواحل البحرين الأحمر والعربي ولا يستغل سوى 20% منها. ميناء عدن من أقدم الموانئ في العالم وكان الثالث في خمسينيات القرن الماضي، والأول في المنطقة القابل لرسو البواخر العملاقة بالنظر إلى العمق الطبيعي الذي هو عليه.
لا تعوز اليمن الموارد البشرية لأزمة التنمية وعنصر بنائها الأول, لكنها تحتاج إلى من يستثمر فيها. النتائج التي أظهرها المسح الدولي لمستويات الغذاء وحال الطفولة في اليمن تكفي دليلاً على المهانة الإنسانية. لو أضيف الفكر الظلامي المتعدد المذاهب إلى "اليمن السعيد" لاكتمل المشهد تراجيديا إغريقية.
الناشطة اليمنية الشابة توكل كرمان الحائزة جائزة نوبل للسلام ناشدت عبد الملك الحوثي الكف عن تدمير منزلها الذي اجتاحته قواته في صنعاء لتتساوى مع آخرين احتلت منازلهم ودُمرت. "لعل في ذلك تحسيناً لمستوى الأمن الغذائي" في صعدة الذي قادت هذه الفتاة الشجاعة تظاهرات التغيير لاستئصال شأفته من كل اليمن.
حكومة التغيير المفترضة في اليمن لم تحسن استخدام الموارد لتحسين المؤشرات الاقتصادية سبيلاً ليس أو حتى لتحسين المؤشرات الاجتماعية والإنسانية . نفهم أن الاحتراب الداخلي طاردة في طبيعتها للاستثمار ومناوئة للنمو والتنمية . لكن الحقيقة ليست حصراً بهذه المشكلة . وإذ افتقرت الحكومة إلى السياسات الرصينة على المستوى المالي والضريبي أساساً لتعزيز إيرادات الموازنة وخفض الدين العام، ولتخصيص جزء من الموارد لغاية الاستثمار في البنية التحتية المتهالكة، أبقت على أعشاش الفساد في القطاع العام وعلى جيش من الموظفين الحكوميين يستنزف مع الدين العام (لا رقم يركن إليه ويراوح بين 15 مليار دولار أمريكي و20 ملياراً) وخدمات الفوائد جزءاً كبيراً من إيرادات الموازنة . الأرقام التي يتداولها مسؤولون حكوميون عن الوظائف الوهمية في القطاع العام بعشرات الآلاف لمقربين وأصحاب سطوة . الحكومة قادرة على وقفها . استسهال الدين العام من أذونات الخزانة يجفف مصادر السيولة المحدودة لدى القطاع المالي ويحرك القطاع الخاص من موارد استثمارية لا غنى عنها لدفع النمو ولجم البطالة . وهي الأعلى في العالم من 54 في المائة في صفوف الشباب بحسب البنك الدولي . "70 في المائة" من الائتمانات المصرفية يذهب إلى الحكومة. وهي مضطرة إلى رفع الفوائد فتراكم ديناً، وتنفقه على حسابات جارية فيها لبس وشبهة.
الخليج الإماراتية
عصام الجردي
مؤشرات اليمن التعيس 984