أن تعارض الولايات المتحدة الأمريكية الطموحات الروسية للعب دور دولي محوري وعدم الاكتفاء بالأدوار الثانوية كقوة إقليمية مسألة نتفهمها ضمنيا، وأن تسعى واشنطن لتوسيع العقوبات تجاه موسكو للتأثير على القطاعين الاقتصادي والدفاعي شيء نستوعبه، لكن أن يخرج علينا رئيس أمريكي من الحزب الديمقراطي (باراك أوباما) أثناء خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ويصنف روسيا من ضمن ثلاثة أخطار تتهدد العالم ويضعها قبل الإرهاب، فهذا تصريح رسمي خطير يتوجب الوقوف عنده وتحليله بدقة مع توضيح أبعاده الداخلية والخارجية.
لابد من التأكيد على أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة تتميز بالاستمرارية- على الرغم من الاختلافات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي من ناحية الآليات والوسائل- إلا أنهما يجتمعان حول نفس الأهداف الرامية إلى تكريس الهيمنة الأمريكية الأحادية الجانب، حيث يغلب الطابع الذرائعي ـ البراغماتي على السياسات الأمريكية، التي هي بدورها منظومة فكرية، ثقافية، اقتصادية وأمنية تتحول بعض أهدافها وغاياتها بعد تحققها في التفكير الاستراتيجي إلى وسائل.
وعليه أتقنت الولايات المتحدة- منذ نهاية الحرب العالمية الثانية- لعبة صناعة الأعداء كجزء هام من استراتيجياتها للسيطرة والهيمنة، فجعلت من الاتحاد السوفيتي سابقا أو "إمبراطورية الشر" كما كان يحلو للمحافظين الجدد تسميته، عدوا استراتيجيا تنبني عليه سياستها للتحفيز العسكري والتبرير الأمني والتعبئة الداخلية والخارجية.
وإبان انهيار الاتحاد السوفيتي، أدرك صانعو القرار بالبيت الأبيض أن خللا ما أصاب مسيرة الولايات المتحدة يتمثل في غياب العدو الاستراتيجي، وهو ما عبر عنه سابقا "غورباتشوف" حينما خاطب الأمريكيين، قائلا: "سأحرمكم من شيء ستندمون عليه، ألا وهو العدو"، وهنا ابتكرت واشنطن "ذريعة الإرهاب" كعدو افتراضي ومجهول لتبرير تدخلاتها الغير مشروعة عن طريق استغلال الشرعية الدولية تارة (أزمة لوكربي) والركب عليها وتجاوزها تارة أخرى في إطار عقيدتها الوقائية اللا مشروعة (غزو أفغانستان).
ويرى بريجنسكي في كتابه "رقعة الشطرنج"، أن الرهان الرئيسي للولايات المتحدة هو السيطرة على المنطقة الأوراسية انطلاقا من غرب أوروبا مرورا بجمهوريات آسيا الوسطى ذات الأهمية الاستراتيجية الكبرى وصولا إلى الصين.
***
وهنا لابد من التوقف أمام الفترتين الرئاسيتين للسيد "باراك أوباما" واللتين تميزتا في مجملهما بضبط النفس الاستراتيجي، والمزاوجة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة، حيث وجد نفسه خلال ولايته الأولى أمام حتمية للتلويح بالمثالية والتشديد على طابع الاعتدال والاهتمام الكبير بالسلام لتلميع صورة الولايات المتحدة من مخلفات الإدارة السابقة، موجها بوصلة إدارته صوب التركيز على قضايا الاقتصاد والانفتاح الاقتصادي، وتشجيع نماذج الحكم الديمقراطية (وفق الهوى الأمريكي) واحترام المنظومة الدولية لحقوق الإنسان وعدم التردد في استخدام القوة والتذرع بحماية تلك المنظومة في إطار حلف دولي وقيادته من الخلف (ليبيا 2011 نموذجا)، ليبتدئ ولايته الثانية بواقعية تمثلت في التأكيد على أن الوجود العسكري الأمريكي المتقدم ما زال هو الحاجز المعتمد عليه أمام المنافسين الجدد من القوى العظمى وهو ما ترجمه الموقف الأمريكي من الأزمة الأوكرانية ومحاولة وضع الدرع الصاروخي للناتو في خاصرة روسيا.
ويمكن إجمال النقاط الهامة التي ركزت عليها إدارة أوباما في الآتي
ـ تحسين صورة واشنطن عن طريق سحب الجنود الأمريكيين من أفغانستان والعراق وخفض الموازنة العسكرية، والتركيز على الشقين الاقتصادي والاجتماعي.
ـ تشجيع الديمقراطية وفق النموذج الأمريكي والتدخل العسكري ضد انتهاكات حقوق الإنسان، مع استثمار الشرعية لتحقيق أهداف الإدارة الحالية في إطار الأحلاف.
ـ التقليل من إمكانية حدوث حروب كبيرة تهدد الهيمنة الأمريكية عن طريق توسيع مجالات تدخل الناتو، لتنتقل مهام الأخير من الدفاع المشترك إلى حماية الأمن بكل ما يهدده من مخاطر فضفاضة كالإرهاب والاتجار بالمخدرات والجريمة العابرة للقارات...
وبوقوفنا أمام النقطة الأخيرة، نجد أن إدارة أوباما (الحزب الديموقراطي) وبعد تبنيها للمثالية كمنهج جنحت للواقعية في ولايتها الثانية وخصوصا تجاه روسيا الاتحادية باعتبارها عدوا استراتيجيا، متبعة نهجا أقل ما يقال عنه أنه نهج للحزب الجمهوري المتشبع بأفكار تيار المحافظين (المحافظون التقليديون ـ اليمين المحافظ ـ المحافظون الجدد).
وعليه، برز تياران متعارضان بخصوص طبيعة تعامل الولايات المتحدة الأمريكية مع روسيا الاتحادية، حيث أكد التيار الأول على ضرورة التعاون وتغليب المصالح المشتركة خصوصا مع غياب الصراع الإيديولوجي في ظل العولمة، في حين شدد التيار الثاني على حتمية احتواء روسيا ومنعها من إعادة بناء الاتحاد السوفيتي من جديد.
ويبدو أن غلبة التيار الأخير بدت واضحة في الولاية الثانية لأوباما وخصوصا بعد خطابه السابق الذكر أعلاه، ما يحيلنا إلى نقطة أساسية أثرت في وسائل وأساليب إدارته الثانية ، تتمثل في سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب التي مكنتهم من التحكم بمستقبل التشريعات والإطاحة بالمخططات السياسية والخارجية لأوباما، والتي كان من أبرز تداعياتها عرقلة مشروع ميزانية قانون تمويل الأنشطة الحكومية في سبتمبر 2013 وابتزاز أوباما لتمرير المشروع شرط تطويع توجهاته الخارجية بما يتماشى مع الفكر المحافظ المسيطر على الحزب الجمهوري، وهو ما اتضح جليا خلال زيارة السيناتور الأمريكي "جون ماكين" لأوكرانيا ودعمه للانقلابيين خلال ديسمبر 2013، ورضوخ مؤسسة الرئاسة للكونغرس مرغمة وتمكينه من لعب دور هام في صنع السياسة الخارجية.
ومن ثم، ينتظر أوباما أيام عصيبة في نوفمبر القادم إذ تصب كل التكهنات في صالح الجمهوريين للسيطرة على مجلس الشيوخ وهم على بعد 6 مقاعد من ذلك، ما يعني أن الديمقراطيين أمام حتمية للرضوخ على المدى القريب لتوجهات الجمهوريين والعودة مرغمين إلى الليبرالية الهجومية التي ميزت فترة بوش الابن.
إن خطاب أوباما الأخير ليس سوى نتاج لضغوطات الجمهوريين ومحاولة لجعل روسيا عدوا استراتيجيا تنبني عليه السياسات الخارجية الأمريكية لتعبئة الداخل الأمريكي، وتصحيحا للعثرات التي سقط فيها أثناء تدبيره للعديد من الأزمات (سوريا ـ إيران ـ العراق ـ أوكرانيا).
الجانب الروسي لن يقف موقف المتفرج من العدائية الأمريكية وسيسعى للتغيير من عقيدته العسكرية ووضع الولايات المتحدة والناتو رسميا على قائمة المخاطر التي تتهدد الأمن القومي الروسي مع توطيد تحالفاته في إطار منظمتي شنغهاي وبريكس، ما يعني أننا سنكون أمام بيئة دولية شبيهة نوعا ما بسنوات الحرب الباردة مع اختلاف الأهداف والوسائل والآليات بطبيعة الحال.
كاتب مغربي
سامي السلامي
لعبة صناعة الأعداء 1256