لم تكن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة المنورة هروباً من الواقع الآسن، بل كانت تكتيكاً دعوياً بعدما شددت قريش في تعذيب العصبة المؤمنة حينما صدع النبي والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بالدعوة إلى الدين الجديد وانكشف التابعون والأنصار للدين الإسلامي الحنيف, ما أغرى قريش في المبالغة بتعذيبهم واستعبادهم ما داموا رهطاً ضعيفاً، فما كان من النبي والرسول الأعظم صلى الله عليه واله وصحبه وسلم إلا أن أذن للصحابة بالهجرة إلى المدينة المنورة بعد ان تمت بيعة العقبة الثانية وبعدما تهيأت يثرب لتكون وطنناً للدين الإسلامي الحنيف وللرسول الأعظم والرعيل الأول من الصحابة- رضوان الله عليهم- في صدر الدعوة الإسلامية.
إذن تجلى التكتيك الدعوي في الفرار بدين الله عز وجل وتأمين وطن لهذا الدين العظيم حيث كانت قريش عالمة بخطورة الهجرة إلى يثرب وكانت تضع أمام الصحابة من المهاجرين العراقيل والعوائق.
لقد كان الإيذان بالهجرة النبوية الشريفة- على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم- إيذاناً بميلاد أمة جديدة ذات رسالة سامية لها من المبادئ والقيم والمثل والأخلاق ما يجعلها زعيمة لشتى الأمم، فالإسلام دين ودولة إذ فرض ذلك هجرة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم والصحابة المهاجرين من أجل إقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة والانطلاق منها إلى أرجاء المعمورة نشراً لدين الله الإسلام كعقيدة وشريعة ومنهاج حياة في ظل انحسار وتهاوي الحضارات ليسجل الإسلام سبقاً فريداً على سائر الأديان من كونه يدعو إلى الحرية المنضبطة بشرع الله عز وجل والمساواة والعدالة الاجتماعية وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات والطوائف على حد سواء.
إن الهجرة النبوية الشريفة عنوان رئيسي لانطلاقة الإسلام الأولى في اتجاه تشييد اعظم حضارة إنسانية راقية فلولا الهجرة ما كنا ننعم بعذوبة الدين الخاتم الذي وصل إلينا بدون تحوير أو تحريف تجسيداً وتحقيقاً لوعد الله سبحانه وتعالى بحفظ هذا الدين من خلال حفظ دستور الأمة وهو القرآن الكريم, قال الله سبحانه وتعالى في محكم الآيات البينات" إنّا نحن نزلنا الذكر وإنّا له لحافظون" فالتجليات للعام الهجري الجديد كثيرة من ان تحصى حيث يجب أن يقف المرء مع نفسه يحاسبها على عام هجري منصرم وعام هجري جديد وما الذي يمكن أن يحدثه الإنسان المسلم لدين الله عز وجل وقد تداعت عليه الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها.
إن الهجرة النبوية الشريفة- على صاحبها أزكى الصلاة وأبلغ التسليم- دعوة إلى هجر الذنوب والمعاصي والتحلل من وحل الهزيمة والانكسار في اتجاه التمسك والالتزام بالدين الإسلامي الحنيف عقيدة وشريعة ومنهاج حياة, فمعظم التشريعات والقوانين يجب أن تكون صادرة من وحي الشريعة الإسلامية السمحاء لتؤسس لمجتمع مدني إسلامي راق متحلل من شتى أنواع الزور والإرجاف والبهتان من اجل ان نعيش في كنف الإسلام ونحمد للرسول والنبي الأعظم صلى الله عليه وسلم وكذا الصحابة رضوان الله عليهم جميعاً صنيعهم في إيصال الدين الإسلامي الحنيف بصورته المشرقة العذبة؛ علماً أننا في مسيس الحاجة إلى اقتفاء أثرهم والتشبه بهم ونحن نحتفي بالعام الهجري الجديد الذي هو عام خير وفتوحات وبركة للأمة العربية والإسلامية.
ولعل ما يتجلى عن الهجرة النبوية الشريفة- على صاحبها افضل الصلاة وازكى التسليم- عن العام الهجري الجديد ان مجرد الهجرة من مكة إلى يثرب كانت منطلقاً لميلاد الأمة العربية والإسلامية التي لم تلذ بالفرار إلى المدينة المنورة بدافع النجاة من التعذيب وتأمين السلامة على النفس بقدر ما كانت تنظيماً وترتيباً لإقامة الدولة المسلمة التي ترتكز على الدين الإسلامي الحنيف وتعاليمه السامية الذي ساوت ما بين البشر وإزالة الامتيازات الطبقية والسلالية, مستحدثة ميزاناً لوزن الشخص والجماعات سيظل خالداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو ما لخصته الآية الكريمة بقول الله سبحانه وتعالى" إن أكرمكم عند الله أتقاكم".. فالتقوى هي أساس المفاضلة بين الناس قال النبي والرسول الأعظم صلى الله عليه واله وسلم" من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" في إشارة ولمحة لوضع التفاضل بالأنساب. إلى ذلك فإن حدث الهجرة النبوية على صاحبها أطيب الصلاة وأتم التسليم قد وضع قواعد المجتمع الملم من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وحدد علاقة ذلك المجتمع المسلم الناشئ الذي يتكون من المهاجرين والأنصارـ رضوان الله عليهم- باليهود الذين يسكنون المدينة, حيث وضع النبي والرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وثيقة تحد معالم العلاقة مع ذلكم اليهود الذين كانوا يقطنون المدينة وهي وثيقة سباقة لإقرار حقوق الإنسان عالمياً.
وتأسيساً على ما سبق نستطيع القول: إنه لولا حدث الهجرة النبوية الشريفة لما وصل إلينا الإسلام بنقاوته وطهارته واستعصائه على التحوير والتحريف, حيث انطلق الإسلام من المدينة المنورة إلى أرجاء المعمورة بعد أن تم فتح مكة المكرمة عنوة بدون قتال.
ومن هناك تم التأسيس لمجتمع مدني راقٍ, فيه من المبادئ والقيم والمثل والأخلاق ما يجعل الإنسان فخوراً في شرف الانتماء والانتساب إليه، فهو الدين الإسلامي الخاتم الذي أسس للدولة المدنية الرفيعة, معلناً الحرية المنضبطة بالشرع الإسلامي وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية.
وكل عام والشعب اليمني والأمة العربية والإسلامية بألف خير وبركة وغلبة ومنعة.
عصام المطري
عن العام الهجري وتجلياته 1288