من الواضح أن الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها " واغادوغو" عاصمة بوركينا فاسو نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2014 تمثّل بداية ما أطلق عليه البعض "الربيع الأفريقي".
ولاشك أن مسار الأحداث وتفاعلاتها الإقليمية والدولية يبدو متشابها إلى حدٍ بعيد مع المسارين التونسي والمصري. فالأمر يبدأ باحتجاجات صغيرة يقودها بعض الشباب المتحمس تؤدي إلى مظاهرات حاشدة، وهو ما يُفضي في نهاية المطاف إلى حدوث تحول كبير في السلطة.
وعلى الرغم من أن أفريقيا شهدت تحوُّلات ديمقراطية مبكرة نسبياً مقارنةً بالعالم العربي، فإن مذاق الربيع العربي وتفاعلاته يبدو غير مسبوق. كما أن عنصر الشباب هو الذي قاد الاحتجاجات وعمل على تعبئة القوى السياسية بوسائل الاتصال الحديثة.
ويبدو أن بوركينا فاسو تمتلك نفس الخصائص الديمغرافية والسياسية والاقتصادية التي تشكل وقوداً للثورة. على أن ثمة أسئلة كثيرة يطرحها نموذج الربيع البوركيني ولاسيما فيما يتعلق بتأثيراته المحتملة على دول غرب أفريقيا، أو فيما يتعلق بدور العسكر ومحاولتهم اختطاف ثورة الجماهير!
يعني ذلك أننا أمام مسارين محتملين فيما يتعلق بدور العسكر في قيادة المرحلة الانتقالية، أولهما المسار المصري الذي هيمن عليه العسكر في قيادة التحول، والثاني هو المسار التونسي الذي قادته القوى المدنية بشكل توافقي مع حياد المؤسسة العسكرية بشكل تام.
ربيع أسود بنكهة عربية
خلال أحداث الربيع العربي التي بدأت عام 2010 كان السؤال المطروح في أفريقيا هو: متى يحدث الربيع الأفريقي؟ وتظهر متابعة الأحداث في بوركينا فاسو وجود تشابه واضح مع الحالتين المصرية والتونسية. فأغلب سكان بوركينا فاسو البالغ عددهم 17 مليوناً من الشباب تقل أعمارهم عن 25 عاماً، أي أن هؤلاء أمضوا معظم حياتهم في ظل حكم الرئيس المعزول بليز كومباوري.
وعلى غرار الوضع الاقتصادي في كل من مصر وتونس، يوجد سخط شديد بين مواطني بوركينا فاسو من تفشِّي الفساد وسوء الحكم. وعلى الرغم من معدلات النمو المرتفعة (7% وفقا لتقديرات عام 2012) يعيش نصف السكان تحت خط الفقر.
وإذا كان الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك يتمتع بصداقات إقليمية ودولية كبيرة، فإن الرئيس المعزول بليز كومباوري كان يوصف كذلك بحكيم أفريقيا.
ولا يخفى أن " واغادوغو" أضحت تحت حكمه إحدى ركائز الاستراتيجية الأمنية لكل من الولايات المتحدة وفرنسا في منطقة الساحل والصحراء، حيث تحتض قاعدة للطائرات الأميركية من دون طيار، ومركزا للقوات الخاصة الفرنسية. ومع ذلك تخلى الغرب عن كومباوري واستخدم العسكر لإجباره على الاستقالة كما فعل من قبل وتخلى عن مبارك.
وتشير إحدى الرسائل المتبادلة بين الرئيس الفرنسي هولاند والرئيس المعزول كومباوري إلى استعداد فرنسا لمساعدة الأخير في تبوأ أحد المناصب الدولية بعد تخلِّيه عن السلطة طواعية.
وإذا كانت محاولة كومباوري البقاء في السلطة لولاية جديدة تبدأ في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 من خلال تعديل الدستور هي التي قادت إلى الثورة عليه، فإن ذلك لا يعني أن محاولة الرؤساء المستبدين في دول أخرى السير على نفس المنوال والبقاء في السلطة سوف تقود إلى "الربيع الأسود". إن دولا مثل بنين وبوروندي والكونغو برازافيل والكونغو الديمقراطية ورواندا تشهد محاولات للنخب الحاكمة فيها لإجراء تعديلات دستورية تسمح بفترة رئاسية ثالثة.
ولعل إحدى دلالات ربيع بوركينا فاسو تكمن في إعطاء هؤلاء الحكام المستبدين فرصة للتدبر والتفكر. إن شباب " واغادوغو" دق ناقوس الخطر وأظهر أن إرادة الشعوب لا تقهر.
لقد خسر الرئيس عبد الله واد الانتخابات في السنغال عام 2012 رغم حصوله على حكم قضائي بالترشح لفترة رئاسية ثالثة. وقد نجح بالفعل بعض الرؤساء في تمديد فترة رئاستهم مثل بول بيا الذي يحكم الكاميرون منذ عام 1982 والذي عمل جاهدا على سحق المعارضة المدنية وضيّق الخناق على المجتمع المدني. ومن بين الدول الأخرى التي قامت بإجراء تعديلات دستورية للسماح لرؤسائها بتمديد ولايتهم تبرز الجزائر وتشاد وجيبوتي وأوغندا.
بيد أن أثر عدوى انتفاضة " واغادوغو" يرتبط بتباين ردود أفعال الدول واختلاف المزاج العام لشعوبها. وعلى سبيل المثال نجد أن النظام الأوتوقراطي الذي يقوده بول كاغامي في رواندا يذهب في اتجاه تعديل الدستور للسماح للرئيس بخوض انتخابات 2017 دون وجود معارضة تذكر. وعلى العكس من ذلك توجد معارضة مدنية قوية في كل من بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية ضد محاولات التمديد.
يعني ذلك أن تقاليد الاستبداد والتسلطية تكون راسخة في بعض الدول في حين تكون المخاطر مرتفعة واحتمالات الثورة أقوى في دول أخرى تتسم بهشاشة مؤسسات الدولة وبقوة حركة المجتمع المدني.
محاولات اختطاف الثورة
لا أظن أن ثمة اختلافا كبيرا في خبرة العلاقات المدنية العسكرية بين كل من أفريقيا والعالم العربي. فالعسكر عادة ما يطرحون أنفسهم باعتبارهم المنقذ والمحافظ على وحدة الدولة والضمانة الوحيدة ضد الفوضى. ولعل محاولات جنرالات بوركينا فاسو اختطاف السلطة والقفز على آمال الشباب تعيد إلى الذاكرة النموذج المصري بتعقيداته المختلفة الذي دفع في نهاية المطاف بالجنرال السيسي إلى سدة الحكم.
سرعان ما أعلن قائد الجيش الجنرال تراوري أنه رئيس الدولة بعد استقالة كومباوري وحل البرلمان وتعطيل الدستور. ويبدو أن الجيش قد تبين لاحقا عدم ملاءمة جنرال معروف بارتباطه بالنظام القديم لتقديمه في حلة ثورية فإذا به يساند العقيد إسحق زيدا، وهو من الحرس الجمهوري وغير معروف إعلاميا ليصبح الرئيس الانتقالي.
وأيا كانت المسارات والمآلات فإن وضع الجيوش العربية والأفريقية كأداة للتحول لن يتغير في المستقبل المنظور. وهنا يطرح السؤال حول أسباب عودة السيناريو الانقلابي الذي هيمن على السياسة الأفريقية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. نستطيع الإشارة إلى أربعة عوامل مفسرة مع تحييد العوامل الخارجية.
أولا: تسييس مؤسسة الجيش في مرحلةٍ ما بعد الاستقلال حيث أصبح هو أداة تغيير السلطة وإحداث تحولات كبرى في المجتمع. فعوضا عن تحييد الجيش وإخضاعه لسلطة مدنية تم توظيفه سياسيا للقضاء على المعارضة وتجاوز الدستور. وعليه فقد اكتسب الجيش خبرة طويلة في العمل السياسي داخل القصور وابتعد عن مهامه الرئيسية في حماية الثغور. ولعل ذلك هو ما جعل الجيش إحدى أدوات تغيير السلطة القائمة أو الدفاع عنها.
ثانيا: فشل الحكومات الأفريقية، بما فيها المنتخبة، في التعامل مع المشكلات اليومية للمواطنين. فثمة انفصام بين السياسات الحكومية وواقع ومشكلات الناس الحياتية.
ولعل ذلك يذكرنا بمقولة أحد زعماء السوزو في الجنوب الأفريقي: "لدينا مشكلتان: الفئران والحكومة". لم يكن غريبا أن تصفق الجماهير حينما يطيح الجيش بالحكومة رغم قناعتهم بأن جنرالات الجيش لا يختلفون كثيرا من حيث المزايا والمنافع عن الساسة المدنيين.
ثالثا: يعد الأمن القومي في البلدان الأفريقية مرتبطا بأمن النظام الحاكم. ولعل ذلك هو ما يجعل قوات الأمن في أفريقيا مصدرا لعدم الأمن بدلا من كونها مصدرا لتحقيق الأمن. يجعلنا ذلك أمام نموذج "حاميها حراميها" كما يقولون بالعامية المصرية.
وتشير الخبرة الأفريقية إلى أن أغلب الجيوش نشأت في العصر الاستعماري حيث كانت أداة للحفاظ على النظام المستبد وحمايته، وحتى في حالة الجيوش الوطنية التي يطلق عليها "جيش الشعب" فإنها دخلت غمار السياسة ورأى قادتها أنهم الأجدر على مواجهة التحديات التي تواجهها الدولة.
رابعا: هشاشة الدولة ومحدودية الثقافة الديمقراطية، إذ عادة ما يلجأ الزعماء السياسيون إلى المناورات السياسية والتلاعب بالدستور من أجل الاستمرار في السلطة فترة أطول. ويبدو أن عدم جدية الضوابط الإقليمية والدولية الخاصة بدعم الديمقراطية في أفريقيا جعلها لا تمثل رادعا للعسكر الانقلابيين.
لقد أعلن الاتحاد الأفريقي والتنظيمات الإقليمية المختلفة مثل الجماعة الانمائية للجنوب الأفريقي (سادك) وجماعة شرق أفريقيا والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) رفضهم الانقلابات والتغييرات غير الدستورية في الحكومات، ومع ذلك فإن هذا الرفض يفتقر إلى الحزم والمصداقية.
ويبدو أن الانقلابيين يعلمون ذلك جيدا بحيث تصبح المسألة وكأنها مسألة وقت. وعادة ما يرسخ العسكر أقدامهم ويعدون بنقل سريع للسلطة، ثم تأتي الانتخابات الموعودة وكأنها عملية تطهير ثانية يبرز فيها عسكري بلباس مدني.
ألم يكن كومباوري نفسه انقلابياً أطاح بصديقه الثوري توماس سانكارا عام 1986 في مؤامرة إقليمية ودولية لم تعرف أبعادها بعد؟ والعجيب أن هذا الانقلابي أضحى يلقب بحكيم أفريقيا ويقوم بدور الوسيط في النزاعات السياسية في الغرب الأفريقي.
يعني ذلك أننا أمام حلقة مفرغة من الانقلابات بأشكالها المنوعة التي قد يراها البعض خشنة في حين يراها آخرون ناعمة وربما يطلق عليها بعض ثالث انقلابات ما بعد حداثية طبقا للقناعات السياسية والأيديولوجية السائدة. إن النتيجة واحدة في جميع حالات تدخل الجيش وهي: موت السياسة.
سيناريوهات المستقبل
"تحقيق أي من سيناريوهات المستقبل مرتبط بقدرة المعارضة المدنية على استمرار الحشد والدفاع عن مكاسب الثورة من ناحية، ومن ناحية أخرى إرادة المجتمع الدولي ولا سيما فرنسا وأميركا ودول الجوار المهمة مثل غانا وساحل العاج"
ثمة أياد خفية، كما أخبرنا آدم سميث في عالم الاقتصاد، تعمل خفية وجهرا من أجل ترتيب أوضاع ما بعد الاحتجاجات في " واغادوغو" حتى لا تخرج عن السيطرة.
بالطبع ثمة مصالح إقليمية ودولية تتقاطع مع بعضها بعضا. وأيا كانت التسوية فإن الجيش لن يكون خارج المعادلة السياسية. ونستطيع تحديد ثلاثة مسارات تمثل ملامح عامة لمستقبل ربيع بوركينا فاسو:
السيناريو الأول، يتمثل في فترة انتقالية يقودها العسكر بزعامة الجنرال زيدا الذي يطلق عليه صاحب "الكاب الأحمر"، وربما يتم الضغط على المعارضة السياسية للقبول بهذا الخيار وإجراء انتخابات في ظل هيمنة عسكرية (النموذج المصري).
أما السيناريو الثاني فهو دستوري ويشير إلى إمكانية إسناد قيادة المرحلة الانتقالية لرئيس البرلمان، بيد أن أحدا لا يتحدث في ظل الثورة الشعبية عن الدستور فضلا عن حل البرلمان قبل استقالة الرئيس. ويشير السيناريو الثالث -وهو أقرب إلى المسار التونسي- إلى تمكن قوى المعارضة من التضامن والحشد الشعبي في مواجهة الانقلاب بحيث يتم تسليم السلطة لقيادة مدنية انتقالية.
على أن تحقيق أي من هذه السيناريوهات مرتبط بقدرة المعارضة المدنية على استمرار الحشد والدفاع عن مكاسب الثورة من ناحية، ومن ناحية أخرى إرادة المجتمع الدولي ولا سيما فرنسا والولايات المتحدة ودول الجوار المهمة مثل غانا وساحل العاج.
لقد أثبتت التجربة فشل شعار بعض الرؤساء "أنا أو الفوضى"، حيث نجد أن أطول الحكومات عمراً تصبح أكثر فساداً وقمعاً للمعارضة، تماماً مثل خبرة النظم التي قادها العسكر في أفريقيا. وعليه يصبح مستقبل السياسة في أفريقيا والوطن العربي مرهوناً بتحرير السياسة من هيمنة العسكر وتبني إصلاحات ديمقراطية حقيقية تلبِّي مطالب وطموحات الجماهير في القرن الواحد والعشرين.
*الجزيرة.
حمدي عبد الرحمن
العسكر واختطاف الربيع 1085