ارتفعت الأصوات المطالبة بانفصال جنوب اليمن عن شماله واستعادة الدولة التي كانت قائمة قبل 1990م في الآونة الأخيرة بصورة اكثر حدة من قبل بعض قيادات الحراك التي وجدت في غياب مقومات الدولة وتدمير المؤسسات الحيوية والفوضى التي تمر بها البلاد عوامل مواتية لفرض مشروع الانفصال وإسقاط الوحدة وفك الارتباط مع الشمال بحلول 30 نوفمبر الجاري, حيث لم تكتفِ هذه القيادات الحراكية منذ بدء فعاليات الاعتصام بساحة خور مكسر بإنزال علم الدولة الموحدة من على أسطح مباني المؤسسات والمرافق العامة والمدارس واستبداله بعلم الدولة الشطرية التي كانت قائمة في الجنوب قبل الوحدة وكذا بالمطالبة بالعصيان المدني والخروج عن سلطة الدولة القائمة بوصفها "سلطة احتلال" بل عمدت إلى إنشاء العديد من المواقع الإلكترونية واطلاق قناة فضائية للترويج للشعارات المناوئة للوحدة والدعوة للانفصال وإخراج الشماليين وعودة الجنوب للجنوبيين وتكريس المصطلحات الجهوية مثل: "شعب الجنوب - دولة الجنوب - قضية الجنوب - الجنوب المحتل" وأسوأ ما في هذه الحملة التحريضية التي وصلت إلى مستويات خطيرة أنها من تؤسس لانقسام مجتمعي على أساس مناطقي وجهوي ينذر بتداعيات مدمرة على المدى القصير والبعيد خصوصاً اذا ما استمر الصمت على هذه الممارسات الخاطئة والسياسات العنصرية الإقصائية التي تستعدي فئة من الشعب على الفئة الأخرى وتزرع في عقول الشباب والمراهقين صورة مشوهة بان هذا شمالي والآخر جنوبي .
هذه هي الحقيقة المرة التي تتعامى عنها السلطة والنخب السياسية والاجتماعية ولا تريد الاعتراف بها تعكس تماما على أن ما يجري في الجنوب لا ينطوي فقط على أفكار تدعو إلى كراهية الآخر ونبذه طوراً بل انه الذي يفتح الباب أمام صراعات قادمة بين انتماءات متقاطعة ومتشابكة ومتنافرة, فمن يقف على الشعارات المدونة على الجدران والأرصفة في "عدن أو لحج أو الضالع" سيجد تماماً أن ما تعبر عنه تلك الشعارات هو اقرب إلى حالة من حالات الانهيار الأخلاقي والقيمي والسياسي والذي تتهاوى في ظله الثوابت و المرجعيات العليا لضمير الجماعة, ناهيك عن معايير التعايش بين أبناء الوطن الواحد وما وصلنا اليه من انحدار تتحمل مسؤوليته السلطة والمكونات الحزبية والمدنية والنخب الوطنية وكل من ساهم في هذا الواقع المرير أو وافق عليه أو لم يعترض عليه أو تواطأ بالهروب إلى الصمت .
قد يكون من الصعب المفاضلة حاليا بين خيار الوحدة وخيار الانفصال؛ فالوحدة قد تكون مرفوضة من بعض التيارات الجنوبية التي ترى أن مصلحتها تكمن في الانفصال وفك الارتباط عن الشمال, فيما الانفصال مرفوض بشكل قاطع من شريحة واسعة تعتقد أن انفصال الجنوب لن يؤدي إلى قيام دولة ناجحة في الجنوب ولا دولة ناجحة في الشمال وان ما سيفضي اليه الانفصال ليس اكثر من دويلات متناحرة تموج بالعنف والصراح على الحدود والجغرافيا المتداخلة ومع ذلك فقد استوقفتني الأسبوع الماضي في حوار الأستاذ عبدالرحمن الجفري مع صحيفة "عدن الغد" العبارة التالية: "الجنوب لم يكن ذات يوم يمنياً وإنما جنوب عربي" حيث ظننت في البداية أنها زلة لسان لمعرفتي بان الجفري من تعود في كل حواراته على القول: "إن لم تخني الذاكرة" لكني بعد أن أتممت قراءة نص الحوار كاملاً تأكدت انه كان يقصد ما يقول بدليل انه وحين قيل له بان منطقاً كهذا يتناقض مع قيامه مع بداية العهد الوحدوي بتغيير تسمية حزب رابطة أبناء الجنوب العربي إلى رابطة أبناء اليمن فقد برر فعلته تلك بان ما دفعه إلى ارتكاب معصية "اليمننة" هو حنينه وشوقه لمدينة عدن ولم يكن هناك من سبيل أمامه سوى اقتراف تلك المعصية والتي كانت من باب "إلا من اكره وقلبه مطمئن بالانفصال" وعودة الجنوب العربي إلى أهله .
من الواضح أنها ليست المرة الأولى التي يُقلِّب فيها عبدالرحمن الجفري المحن على يمنية الجنوب كما أنها ليست المرة الأولى التي نتفاجأ فيها بوزراء كانوا حتى الأمس القريب ضمن قوام حكومة الوفاق الوطني يعودون إلى انفصاليتهم وجهويتهم ومناطقيتهم بمجرد خروجهم من السلطة, فواقع الحال أن الوحدة أضحت بالنسبة للبعض مجرد أحجية للوصول إلى بعض المنافع الشخصية والذاتية ولذلك فقد تحولت هذه الوحدة حائطاً واطياً يسهل القفز عليه من أي متسلق وهو الأمر الذي وفر مناخاً ملائماً لاستمرار وتيرة التداعي حيال ما يتعلق بالقضية الجنوبية وتنفيذ الحلول المقترحة لمعالجة هذه القضية في مخرجات مؤتمر الحوار الوطني خصوصا وان هناك من استغل تأخر السلطة في إخراج تلك المعالجات إلى حيز التنفيذ دافعا له لمزيد من التشدد إلى درجة وجدنا فيها من هؤلاء من سارع إلى إنكار يمنية الجنوب رغم علمهم وإدراكهم بان الحقائق التاريخية ثابتة.
ولا يمكن لأحد إنكارها أو تغييرها واذا كان هناك بعض المهرطقين قد تنكروا ليمنيتهم فهذا لا يغير شيئاً من الحقيقية التاريخية العابرة للأزمنة والعصور. فعندما يقول هؤلاء انهم ليسوا يمنيين فان الأرض التي يعيشون فوقها هي يمنية وستبقى إلى الأبد يمنية فهوية الأرض وانتماؤها لا تخضع لتقلبات مزاج الأشخاص أو مواقفهم لأنها من الحقائق الراسخة بينما مزاج الأشخاص يظل غير ثابت.
لا أدري لماذا يتوهم بعض قيادات الحراك أن مصير القضية الجنوبية يتوقف على طمس هوية الجنوب؟ ولا أدري لماذا تصر تلك القيادات على الربط بين بمطالبتها بالانفصال وبين إنكار يمنية الجنوب؟ مع انهم الذين يدركون أن هوية اليمن هي أنها (اليمن)التي تكونت فيها اقدم الحضارات الإنسانية ويعلمون أيضاً أن الصراعات حول الهوية هي من اشد الصراعات إراقة للدماء وان الإنسان الذي يتمزق بين "أنا وهو أو نحن وهم" يصبح اكثر ضراوة حين يختلف معه من يزاحمه على معتقده أو هويته.
أليس من الغريب أن يتنكر البعض منا لهويته ويمنيته في حين انه لا هوية له غير تلك الهوية ؟مع أنها مسلكية لم يسبق وان وجدناها في غيرهم فقد انفصل جنوب السودان عن الشمال ومع ذلك فلم نسمع أن أبناءه تخلوا عن سودانيتهم فيما تشظى الصومال إلى ثلاث دويلات ولم نرى من أبناء هذه الكيانات تجرداً من صوماليته والحال نفسه ينطبق على الشعب الكوري الذي يتوزع في كيانين مستقلين ومعترف بهما والشعب الألماني الذي انفصلت دولته ثم عادت وتوحدت من جديد تحت الهوية الألمانية فيما أن ما هو مفروغ منه وغير قابل للنقاش أن الشعب اليمني هو شعب واحد ولا يتألف من عدة شعوب كالشعب الهندي أو الأمريكي أو السويسري أو البلجيكي.
وبالتالي فاذا ما أراد أبناء الجنوب فك الشراكة مع الشمال فليس هناك ما يقتضي منهم الانزلاق إلى هذه العصبية الجهوية المقيتة؛ فإما وحدة بمعروف أو انفصال بإحسان, فلم تعد هناك مخاوف تستلزم القلق فالانفصال تأثيره على الشماليين هو في حقيقة الأمر نفسيّ اكثر من كونه اقتصادياً أو استراتيجياً كما يزعم البعض الذين يروجون من أن المتنفذين في الشمال يتمسكون بالوحدة لغاية نهب ثروات الجنوب, فالواقع أن من نهب الجنوب ليس المتنفذين في الشمال وحدهم بل أن شركاءهم من المتنفذين الجنوبيين ومعظمهم لايزالون في الدولة والسلطة وقيادات الجيش والأمن يتحملون القسط الأوفر في عملية النهب التي حدثت في الجنوب وستكشف الأيام هذه الحقائق وسيعرف الجميع أن التشويه الذي تعرض له أبناء الشمال والذين صار كل منهم في صورة ناهب أو متأهب ينتظر فرصته لنهب الجنوب, إنما هو الذي يصب في وعاء شق الصف وضرب وحدة المجتمع وإدخال البلاد في حروب مفتوحة لا يعرف مداها.
علي ناجي الرعوي
عن إنكار البعض ليمنيَّتهم!! 2297