ليس من نافل القول إن هناك خلطاً بين قرار التقسيم في التاسع عشر من نوفمبر "تشرين ثان" 1947، وبين وعد بلفور في الثّاني من نوفمبر" تشرين ثان" 1917، حيث أن الثلاثين عاما الفاصلة بين القرارين، ما هي سوى مرحلة إعداد وترتيب، مع مراعاة اختلاف الواقع السياسي المفرز في هذه الحقبة الممتدة ثلاثة عقود، بين منح اليهود "وطنا قوميا" في فلسطين بقرار من وزير المستعمرات البريطاني بلفور، وبين استصدار قرار أساسي ومقر شرعي ودولي باقتسام فلسطين بين قوميتين، العربية ممثلة بالفلسطينيين، واليهود، لب الصراع والصداع الأوروبي آنذاك.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بانتصار بريطانيا وفرنسا، وهزيمة تركيا، تقاسم المنتصرون تركة تركيا- الإمبراطورية الإسلامية- وتم وضع تركتها الجغرافية والبشرية وفق تقسيمات إدارية تحت سلطات أطلق عليها "الدول المنتدبة" حسب معاهدة سيفر، أي وفق قانون وشرعية عصبة الأمم "هي دول تقوم بمهام إعداد الدول المُنتدبة وتأهيلها لتقرير مصيرها" فكانت المنطقة العربية هي فقط الخاضعة لهذا المسمى الجديد، حيث تقاسمت فرنسا، وبريطانيا، وبلجيكا المنطقة، فكانت فلسطين الدولة الهدف تحت سلطة الانتداب البريطاني، صاحبة الوعد الأشهر في التاريخ "وعد بلفور"، حيث بدأت السلطة المنتدبة تمهد كل السبل والأدوات، لتمكين اليهود من بسط سيطرتهم، ونفوذهم على أصحاب الأرض الشرعيين، وسهلت لهم التسهيلات الجيوسياسية، والاقتصادية، ومنحتهم امتيازات، واستثمارات كبرى في فلسطين، تحت حمايتها، وإشرافها، ممّا أثار زوبعة غضب في صدور الشعب الفلسطيني الذي بدأ يُدرك أن هناك مخططا متكاملا ضد وطنه، وأرضه، في ظل حالة من سبق الإصرار والترصد، تتوافق وروح "وعد بلفور"، ولكن ضمن أدوات ووسائل مختلفة، أي تكتيكات مغايرة ومختلفة، من قبل الوكالة الصهيونية، والانتداب البريطاني، استغلالًا للحالة الواقعية والتاريخية القائمة، والتي كانت تشهد تخلف المجتمعات العربية الخارجة من نير السيطرة والهيمنة العثمانية الطويلة، والتي فعلت فعلها في تأخر وتخلف الشعوب العربية، ومقوماتها التنكولوجية، والعلمية، والتقدمية، حيث تسلمت القوى المنتدبة المنطقة العربية بلا أي مقومات تقدم، أو بنى تحتية، أو بشرية يمكن لها أن تستدرك ما يدور حولها من مؤامرات، إضافة لسياسات القوى الاستعمارية، من تهيئة المنطقة بأنظمة يغلب عليها طابع العشائرية والبداوة، وطابع الوظيفية طويلة الأمد، وهو ما مهد لها البدء فعليًا في منح اليهود "فلسطين" مع الاحتراز من الدفع بالمشروع دفعة واحدة، بل حاولت بريطانيا وقوى الاستعمار العالمي، استدراج الحالة استدراجًا، وقراءة المتغيرات الدولية، وكذلك المتغيرات في المنطقة العربية، أضف لذلك ثورات الشعب الفلسطيني المتعاقبة ضد الانتداب، والوكالة الصهيونية، فما كان من خيارات سوى إقحام هيئة الأمم المتحدة، الخلف لعصبة الأمم المتحدة، والبدء بالتحرك عبّر لجان متعددة منها ما هو لجان تحقيق، ومنها ما هو لجان وضع وصياغة حلول للمسألة الفلسطينية، المنقسمة ذاتيًا بين هدف صهيوني، وطموح فلسطيني، ورغبة بريطانية أوروبية، حتى اهتدت الأمم المتحدة بناء على مقترح بريطاني بإرسال لجنة دولية ترى حل للمسألة الفلسطينية، والتي استوحت من "وعد بلفور" استراتيجيتها الرئيسية فأقرت مشروعا وضعته أمام الأمم المتحدة، ينص على تقسيم فلسطين لثلاثة مناطق، منطقة يهودية" دولة "منطقة عربية" فلسطينية"، القدس تحت الإشراف الدولي.. وهو ما تم إقراره فعليًا في التاسع والعشرين من نوفمبر "تشرين ثان" 1947، وسط غضب عربي – فلسطيني عاجز عن أي فعل حقيقي، ومؤثر في إرادة الاستعمار العالمي، والإمبراطورية البريطانية. التي ما أن أنهت انتدابها على فلسطين حتى باشرت الحركة الصهيونية في الرابع عشر من مايو" أيار" 1948 بالإعلان عن الكيان " إسرائيل".
بدأ العرب في تحركاتهم صوب فلسطين، وهم في حالة متشر ذمة، مفككة، ضعيفة، لم تقو على فعل أي شيء فاعل في تغيير التضاريس الجيوسياسية في المنطقة، فكان لانتصار الكيان في حرب 1948 بداية انفراط العقد الحقيقي لفلسطين التاريخية، حيث سيطرت العصابات الصهيونية على نصف فلسطين، والقدس الغربية، حتى سنحت لها الفرصة لتكرار انتصارها في عام 1967 والسيطرة على كامل فلسطين، وضم القدس الشرقية لكيانها رسميًا، وهي تدرك أن الحالة الفلسطينية تعاني من تشرذم، وتصارع بين قواها المحلية، وتجاذبات العرب، وضعفهم، فاتبعت سياسة الأمر الواقع في تطبيق وتنفيذ سياساتها على الأرض.
وكانت ردة الفعل العربية والفلسطينية هي عبارة عن ردات وقتية، لحظية، لا يمكن لها أن تكون فاعلة ومؤثرة في عملية تحرير أو عملية نزع الحقوق، حيث خرجت الجيوش العربية مكسورة، مهزومة، كما كانت الدول العربية تعاني من الفقر، والتخلف، والظلم، أما الحالة الفلسطينية فكانت تشد وتتجاذب حول الأحزاب العائلية العشائرية السائدة آنذاك من جهة، وبين القوى المتصارعة على فكرة الرئيس عبد الناصر بإنشاء منظمة تحرير فلسطينية، كإخلاء طرف لليد العربية من فلسطين، واستمرت الحالة العبثية العربية والفلسطينية على حالها، حتى بعد سيطرة القوى الثورية على المنظمة، وقيادة دفة الثورة، والتي ارتكزت في ثوريتها على النمط التقليدي، الروتيني، فتحولت "م ت ف" أشبه منها دولة عن ثورة، وخاصة بعد الخروج من الأردن عام 1970، وهي العملية التي وصفتها إدارة الاستخبارات المركزية الأميركية تحت بند العمليات السرية التي كانت تقوم بها بعض البلدان وتتلقى دعما سريا منها، حيث كشف تقرير فندلي عضو الكونجرس الأميركي أن الملك حسين تلقى عشرة ملايين دولار نظير عمليات سرية وخاصة تقوم بإسنادها الاستخبارات المركزية الأميركية لبعض الأنظمة دون أن تؤثر على وجودهم في المنطقة، أو تحد من تمددهم. ومنذ ذاك الحين وثورتنا أو منظمة التحرير الفلسطينية، لم تعد تمثل قوة ثورية، بل أصبحت تمثل قوة سيادة ومؤسسة سلطة تم إغراقها بالمال، واحتوتها الأنظمة العربية الأميرية، والملكية، وتحولت لثورة ناعمة، بدأت عملية الإسهال في التنازلات سواء عبّر البرنامج المرحلي عام 1974 الذي تقدمت به الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وتم تبنيه في المجلس الوطني الفلسطيني، تحت ما يسمى شرعية المال، والإغراء، وبدأت تتوالى انكسارات التنازل الفلسطيني، واحدًا تلو الآخر، حتى سيطر المال على القرار، وتحولت السيادة الثورية لمنظمة التحرير الفلسطينية، المتشرذمة أساسًا، والتي لم تشهد أي معالم وحدة ثورية أو وطنية سوى على الورق والخطابات فقط، من سيادة البندقية إلى سيادة رأس المال، ورجال الاستثمار، باسم الواقعية الدولية، حتى أفاق الشعب الفلسطيني في عام 1994 على توقيع اتفاق "أوسلو" في المطبخ الخلفي للولايات المتحدة الأميركية، والكيان، و "م ت ف" لمنح الفلسطينيين حكما ذاتيا إداريا، يتم بموجبه نشر أجهزة شرطية وأمنية فلسطينية في غزة أريحا كمرحلة أولى، ثم على بعض مناطق الضفة الغربية، وفق تقسيمات A,B,C أي تقسيم المناطق لثلاث سلطات واختصاصات، امتيازات السلطة الوطنية فيها امتيازات إدارية تنسيقية، على نمط روابط القرى المقترح الذي قاومته وخونته القوى الثورية، ولكن بغطاء م ت ف، والذي كان ينص على إقامة دولة فلسطينية في حدود عام 1967، وهو سقط واحتضر تحت المماطلة والتسويف الصهيوني، حتى أن موقعي الاتفاق رئيس الوزراء الصهيوني إسحق رابين تم اغتياله على إثر التوقيع من متطرف صهيوني، وياسر عرفات تم دس السم له في المقاطعة برام الله واستشهاده ولا زال الفاعل مجهولا، وخروج بل كلينتون الرئيس الأميركي من البيت الأبيض، ووفاة الملك حسين عاهل الأردن، وعزل الرئيس المصري حسني مبارك، وهم أقطاب ومهندسو أوسلو وأخواتها.
هذه القراءة هي دلالة حتمية على أن قرار التقسيم- الذي نحن في صدده اليوم- ما هو سوى استجلاب لوعد بلفور بصياغات وأشكال أخرى.. لا زالت حتى راهن اللّحظة في صيرورة التنفيذ، في ظلّ حالة عدمية من القراءة الوطنية الفلسطينية التي لا زالت تتساير مع واقعيتها المتشرذمة، واستقطابها من قوى التآمر الإقليمية، فإن كانت هذه القوى قد استغولت في "م ت ف" واستقطبتها سابقًا بالأموال، فإن نفس الأدوار تقوم بها القوى الإقليمية في استقطاب القوى الفلسطينية بكل تياراتها، وخاصة القوى الإسلامية التي صعدت على سلم النظام الفلسطيني في الحقبة الأخيرة عبر حركة حماس.
د.سامي الأخرس
قرار التقسيم ترسيخ لوعد بلفور 1018