سجّل ذلك الجزء من الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة، إبّان العدوان الإسرائيلي الأخير عليه، صلابة في الصمود، وإقداماً في المقاومة بشكل مشرّف تفاخر الشعوب وتحيك الأساطير لتخليد ما هو أقل منه بكثير. ولو عاش الأميركيون جزءاً يسيراً ممّا مرّت به غزة لحوّلته "هوليوود" إلى مصدر لا ينضب للأفلام وقصص البطولة.
قاومت غزة أكثر من خمسين يوماً في ظل حصار خانق، حتى على حركة الجرحى. كانت تلك هي الحرب الثالثة التي يصمد فيها القطاع ومقاومته الباسلة، ويرفع رأس الشعب الفلسطيني والأمة العربية في أدائه وإبائه.
لم نرَ القيادة الفلسطينية في أثناء ذلك تشعر بالفخر، ولا حتى بالغضب، بل بالحرج. وكأن قطاع غزة يحرجها في مسيرتها التفاوضية، وتنسيقها الأمني، وتوقعاتها المنخفضة من شعبها، وعلاقاتها مع النظام المصري الذي لم يخفِ تواطؤَه، ورغبته أن تقضي إسرائيل على المقاومة في غزة، أو تلقّنها درساً لا تنساه على أقل تقدير. وها هو حالياً يحجز حركة السكان، ويبذل جهداً فائقاً في خنق غزة، اقتصادياً وعسكرياً أيضاً، في حربه الشاملة ضد الأنفاق، بما في ذلك ما تبقّى من الأنفاق التي يمر عبرها السلاح للدفاع عن القطاع.
فرضت المقاومة رفع الحصار بصمودها، وحوّلته إلى شرط مقبول دولياً، لكن النظام المصري استمات كي لا يحدث ذلك، سواء بتشديد الحصار من طرفه، أو باحتكار الوساطة مع إسرائيل، للتوصل إلى وقف إطلاق النار رافضاً الشروط الفلسطينية، ومشجعاً إسرائيل على "الصمود"
في وجهها. فقد كان من الواضح أن إسرائيل وأميركا تريدان كسر المقاومة في غزة، لكنها، من منظور براغماتي، لا تمانع أن تخفّف وطأة الحصار، ويُرخى الخناق عنه قليلاً، فهي لا تعارض أن يأكل الناس، ويُعالجون ويسافرون للتعلّم وللعمل في ظل السيطرة الإسرائيلية، لأنهما يعرفان جيداً أنه بهذا تقل احتمالات الانفجار. فإسرائيل وأميركا تَعجبان "لمَن لا يجد في بيته قوت يومه، ولا يخرج للناس حاملاً سيفه".
ولكن، تفضّل عقلية النظام في مصر، مثل غيره من الأنظمة العربية، نوعاً آخر من البراغماتية. وقد شهدنا تجليها الأوضح في العنف الشديد والمتواصل في سورية، واستخدام التجويع لكسر المناطق المتمردة بعد حصارها، وجعلها تختار بين الطعام والاستسلام، أو الجوع والصمود، أو كما لخّصتها شعارات النظام التي كُتبت مقابل الأحياء المحاصرة: الجوع أو الركوع. هذه العقلية العنيفة القائمة على تبلّد المشاعر تجاه المعاناة، وعلى انعدام الانتماء إلى الشعب، إلى درجة العنصرية تجاهه، وليس أقل من هذا، أصبحت اكتشافاً عبقرياً يصلح أساساً بديلاً عن الأيديولوجية في تقارب بين هذه الأنظمة أخيراً. والنظام المصري يرى أنه بالإمكان تثوير الشعب في غزة ضد المقاومة، إذا حوصرت بدرجة كافية من اللؤم. لهذا السبب، ما زالت غزة تنتظر إعادة الإعمار الموعود، والذي تعرقله أيادٍ غير خفية. لقد أعربت عدة دول عن استعدادها للمساهمة في إعادة الإعمار، ولكن ثمّة مَن يصرّ على استخدام معاناة الناس للضغط السياسي.
من ناحية أخرى، تخوض القيادة الفلسطينية في رام الله صراعاً مع إسرائيل، التي تضيّق عليها، هي الأخرى، بالاستيطان وسد أبواب التفاوض، وخلافات مع دول عربية تحاول أن تفرض عليها قيادات تابعة لها، وصراعاً مع حماس في الضفة والقطاع، وتجاذباً مع الولايات المتحدة على الساحة الدولية. كيف لا ترى هذه القيادة أنه لا يمكن، حتى من الناحية البراغماتية، خوض كل هذه المعارك في الوقت ذاته، وأنه لا بد من وحدة الضفة وغزة للصمود؟ بمثل هذه الوحدة الوطنية، سوف تحرج الدول العربية والغربية، بدلاً من أن تكون هي المحرجة، وفي الوقت ذاته، تنصف قطاع غزة وأهله قليلاً. وينطبق هذا أيضاً على قيادة حركة حماس.
حالياً، يبدو قطاع غزة بعد الحرب كمَن خرج من عملية جراحية خطيرة، قاوم فيها قلبه بقوة. ولكن، بدلاً من أن يُرسَل إلى نقاهة وإعادة تأهيل بعد العملية، حُكم عليه بالأعمال الشاقة المؤبدة، وأُرسل إلى زنزانة لا ماء فيها ولا دواء.
عزمي بشارة
هل تستحقّ غزّة هذا؟ 1016