بينما الشمس تكشف عن ستر الفجر، وتعبر أشعتها تلك النوافذ الزجاجية في أرجاء صنعاء, تهمس بصوتها الخافت على مسامع أرواح كتب الله لها آخر فصول أيامها، فيما لا يزال الأمل يزين ضفافها ويكسو واحاتها، فتصحو تلك الأرواح التي تسكن أجساد شباباً في مقتبل العمر على موعد للحصول على الترقية العسكرية كخطوة جيده نحو المستقبل.
لم تكن صنعاء في ذلك اليوم كعادتها فشمسها غائرة وثوبها أسود وسحابها كثيف ووجهها شاحب، كان الحزن يمزق كيانها، تماماً كالأشلاء المتناثرة من أجساد أبنائها.
خرج عشرات الشباب من منازلهم وتلك الابتسامة تملأ محياهم أملاً في نيل الترقية العسكرية، كانت صنعاء تعتصر ألماً وهي ترى شبابها يتسابقون إلى الموت وودت لو أن بمقدورها تحريك مبانيها وتغيير شوارعها لتغير مسار توجه فلذات أكبادها. تمنت لو أن بمقدورها الصراخ فيهم أن يتوقفوا عن الذهاب إلى شارع الموت، كم ألحت بالدعاء أن يضلوا طريقهم مبتعدين عن هدفهم، كانت صنعاء في نحيب لا نسمعه وفي نزيف لا نراه و في ارتجاف لا نحس به، كساها الخوف ولم نشعر بها.
لقد كانت كأم ينزف قلبها دماً وهي تشاهد احتضار أبنائها، كم أنت رحيمة يا صنعاء وكم هم قساة ساكنوك.
صنعاء.. من أهداك هذا اليوم المفزع ولما قبلتي به؟
ألم تتعلمي من شقيقتك بغداد أن تتفحصي الهدية قبل قبولها! أم أن أهلك هم من استقبل تلك الهدية؟ لن أزيد جروحك فأنا لم أعد أمتلك القدرة في التعرف على ملامحك التي أصابها الوجع، لقد تغيرت كثيراً حتى غابت عنك ملامح الوطن.
أتعرفين يا حبيبة لقد غسلوا الدماء من شوارعك، لكن من يغسل تلك الدموع من خدّيك.
لا بأس عليك يا صنعاء فالأشلاء قد دُفنت، والأرواح اتجهت نحو السماء لتسكن بسكينه بجوار خالقها.
هوني عليك صنعاء, فالشهيد برتبة ملازم أول والجريح ملازم ثاني، ألم يسعدك الخبر يا صنعاء أو لم يخرجوا في الصباح من أجل تلك الترقية العسكرية وهاهم نالوا الأعظم والأبقى!!!
ترقية أعلى درجة من مبتغاهم في الدنيا لقد ارتقوا إلى جوار ربهم شهداء.
صنعاء إنهم فرحون بما أتاهم ربهم من نعيم، إنهم سعداء حقاً، لقد سكنوا مكاناً أكثر أمناً منك فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون فأرواحهم لن تُسلب مرة أخرى، لكنهم يفتقدونك يا صنعاء، يفتقدون شمسك، شوارعك، نوافذك، منازلك، وكل تفاصيلك.
إنهم عشاقكِ يا أم الشهداء وصانعة العظماء كغيرهم من أبنائك فاجمعي شتاتهم وتوسلي لله أن يرعاهم..
إياد عتوين
بغداد تُهدي صنعاء يوماً 1153