عرف عن القاضي/ عبد الكريم العرشي (رئيس جمهورية سابق)، وواحد من أبرز رجالات الدولة وخبراء الإدارة والقانون في اليمن.. عرف بطول البال وسعة الأفق، أو ما يسمى بسياسة النفَس الطويل.
ولخبرة الرجل الطويلة في رئاسة وإدارة العمل التشريعي في مجلسي الشعب والشورى، كان عندما يكثر التداول حول القضايا المثيرة للجدل، خاصة المتعلقة منها بالجوانب القانونية والدستورية المستعجلة، التي تنطوي على تناقض في الرأي وخلاف في وجهات النظر، يترك مجالا كبيرا وواسعا للحديث، وأحيانا يمدد الجلسات ليتيح للمعارضين من الأعضاء فرصة الحديث لمرتين وثلاث... حتى وإن كان الحديث في بعضه مكررا ومملا وغير ذي قيمة، لكنه كان لا يضيق ولا يملّ، محاولا بذلك استحضار التعب والملل عند المعارضين في القاعة ليصل بهم إلى حد القناعة بالإنجاز، فيندفعون في ضيق للمطالبة بالتصويت على الصيغة المناسبة، وحينها كان يسأل بهدوء وطول بال: «هل بقي أحد من طالبي الحديث؟»، فتضج القاعة بـ«لا» وبالمطالبة بالتصويت.
وبهذا الأسلوب المرن والهادئ في إدارة وإنجاز المهام كان القاضي العرشي - رحمه الله - يسلك طريق الإنجاز من باب تعمد التطويل في النقاش لينهي بحرص وحكمة مهام الدورات التشريعية، التي تميزت في فترته بالثراء والنوعية، وأسست لقاعدة تشريعية مهمة في اليمن لكنها ظلت مهملة ومعطلة حتى اليوم.
استحضرتني هنا فكرة التطويل لغرض الإنجاز عند القاضي العرشي في العمل التشريعي، وأنا أتابع بحزن وألم التمطيط الممل وغير المقبول، والتطويل لغرض التطويل الذي حدث ويحدث مع صياغة الدستور اليمني الجديد، فقد طالت فترة حمله لتصل إلى ما يقارب العام، ولا تزال ولادته متعسرة، والخشية أن يولد مشوّها.. فمسيرته لا تزال طويلة رغم تقديم مسوّدته لرئيس الجمهورية.
فصياغة الدساتير - حسبما نفهم - لم تكن في الماضي مهمة صعبة ومعقدة، وهي ليست كذلك في العصر الراهن، فعصرنا هو عصر السرعة وتكنولوجيا المعلومات، ولعل المكتبة الإلكترونية قد وفرت كمّا كبيرا وهائلا من المنظومة الدستورية العالمية، وأصبحت بتنوعها واتجاهاتها، وتجاربها المختلفة في متناول الجميع.
فمشروع دستور دولة الوحدة اليمنية لم تستغرق صياغته عند الأستاذين الوحدويين المناضلين حسين الحبيشي وعمر الجاوي وقتا طويلا مطلع سبعينات القرن الماضي.. ولم يتطلب منهما الترحال لأكثر من رحلتين بداخل الوطن بين صنعاء وعدن، وهو يعتبر من أرقى الدساتير مضمونا وصياغة في المنطقة العربية على الأقل، كما أنجزت صياغة الدستور المصري الجديد في ظرف 60 يوما بخبرات وطنية مصرية وبداخل القاهرة، واتبعت تونس نفس النمط والأسلوب في صناعة وصياغة دستورها (وكلتاهما مما تسمى دول الربيع العربي).
ومن التجارب العالمية المهمة في صياغة الدساتير، الدستور الهندي، الذي وضعت مسوّدته أمام الشعب للتعليق عليها عام 1948 خلال فترة 6 أشهر فقط، وكان يحتوي على 395 مادة، وأصبح بعد مائة تعديل حتى اليوم يضم 444 مادة دستورية، تنظم حياة مليار و300 مليون مواطن هندي، ينتمون إلى 8 ديانات ومئات الإثنيات، وهو يعتبر أطول وأكبر الدساتير العالمية حجما.. أما الدستور الاتحادي الأميركي، وهو أقدم دستور مكتوب لم ينقطع العمل به منذ أكثر من مائتي عام، فيتكون فقط من 7 مواد دستورية.. بينما مسودة الدستور في اليمن «الاتحادي» المزمع تضمنت 446 مادة دستورية، أي أنه سيبلغ الذروة العالمية في حجمه وطوله وعرضه، وينتظر من هذا الدستور أن ينظم شؤون حياة 23 مليون مواطن يمني، بينهم 65 في المائة أميون لا يقرأون ولا يكتبون، وليس بينهم إثنيات أو أعراق متباينة، وينتمون إلى ديانة واحدة، إلا إذا استثنينا العشرات من اليهود، الذين أصبحوا مشردين يعانون من الخوف والضياع، وهم من أصول عرقية عربية يمنية.
وهكذا، فعندما تكون مهمة صياغة الدساتير مهمة وطنية، تكون المهمة يسيرة وغير معقدة، ولا تأخذ وقتا طويلا، لا في الصياغة، ولا في التنقيح، ولا في كمّ الأوراق وعدد المواد.. والاستفادة من تجارب الآخرين أمر ضروري، بل ومهم للغاية، لكن في حدود ما يحافظ على الصبغة الوطنية في الشكل والمضمون، خصوصا ونحن هنا نتحدث عن الدستور، الذي يعتبر «أبو القوانين» ويمثل المصدر الأساسي للتشريع.
والغريب في لجنة صياغة الدستور اليمنية التي مددت لمهمتها دون مبالاة، وأغرقت في الترحال بين عواصم أوروبية وعربية، وهجرت الوطن وأهله لغرض «الصياغة» كانت تقتصر مهمتها فقط على صياغة مجمل الأفكار التي أنتجها حوار «العوائل» في «الموفمبيك»، ولم تكن في وارد أن تخترع أفكارا جديدة وأنماطا نادرة من القيم والمفاهيم أو المناهج الدستورية لتقدمه لليمن الجديد، فمشكلة اليمن - كما هو حال معظم الدول العربية - لا تكمن في قلة النصوص الدستورية والقانونية، وإنما تكمن في عدم التعامل مع هذه النصوص وعدم إعمالها في الحياة السياسية والعامة.
لكن دعونا هنا نتفاءل ونقُل إن التمديد والتطويل في أعمال لجنة الصياغة الدستورية كان بأمر «الدولة»، وإن الترحال وعقد الجلسات خارج الوطن كان للترويح عن النفس «والابتعاد عن الضغوط النفسية والسياسية بالداخل» - حسب الأستاذ إسماعيل الوزير رئيس اللجنة، الخبير في تقديم الفتاوى الدستورية والقانونية المرضية - لكن المثير للمخاوف هو ما بعد هذا التمديد، وما بعد هذا الكم الهائل من النصوص والأوراق!
فهل نحن بالدستور «الدوامة الجديدة» قادمون على التمديد لاستمرار الفوضى في اليمن؟! وهل بالدستور سنمدد للفترة الانتقالية ونمدد بالتالي لتدمير ما تبقى لنا من وطن؟!
هذا هو السؤال الذي ستجيب عنه - بالضرورة - مسوّدة الدستور التي تنتظر الإفراج عن نصوصها رسميا.
الشرق الأوسط
د.عبدالوهاب الروحاني
الدستور..الدوامة اليمنية الجديدة! 2261