الأزمة نوعان: عابرة ومتكررة، وإدارة الأزمات المتكررة تطرح على مستوى الفكر السؤالين البدهييْن للأزمة: لماذا؟ وكيف؟ وقبل أن تهدأ عاصفة الجرم المسيء في حادثة "شارلي إيبدو؟" -بما ستتركه من تداعيات واستعمال وتوظيف- جدير بنا أن نطرح على أنفسنا وعلى من نعيش معهم في مجتمعات المهجر ونشاركهم الوطن والمواطنة والوطنية أيضا، سؤاليْ الأزمة: لماذا؟ وكيف؟
وسؤالا الأزمة يتصلان مباشرة بعلاقة الشرق بالغرب، ورؤية الغرب للدين عموما وللإسلام على وجه مخصوص. وهما سؤالان مركبان من تساؤلات طـُرح بعضها في استحياء وخجل، وبعضها الآخر كان جريئا وجسورا في مناقشة تلك العلاقة.
وكان في مقدمة ما طرح من تلك التساؤلات: لماذا يصرون على الإساءة إلينا في أعز ما نملك؟ ألم يتحدث العالم عن ضرورة التعايش والحوار وقبول الآخر؟ فلماذا يجرحون مشاعرنا ويطعنون في ديننا؟
وهل هي (على المستوى الثقافي) حرب صليبية جديدة -كما قال قديما جورج بوش الابن- يُستخدم فيها القلم بدلا من المدفع، والصورة بدلا من الطائرة، والكلمة بدلا من الصاروخ؟ ويكون احتلال العقول والمشاعر بديلا عن احتلال المدن والقرى وحرب الشوارع؟
وربما كان من المناسب أن نجيب عن السؤال الأول فقط: لماذا؟ ونرجئ السؤال الثاني: كيف؟ إلى مقال آخر.
والإجابة الخطأ عن تلك الأسئلة تخلق بيئة مواتية للكراهية والتعصب وربما العدوان والعنف، ولذلك كان على العقلاء أن يهتموا بإجابة السؤال وأن يتحرى الجميع في الإجابة عنه المنهجية والعلمية والموضوعية، بعيدا عن كلمات المجاملة التي تثمر في معالجة الأزمة مجرد التخدير، لكنها لا تتناول أصل الداء ولا تتعرض له.
ومن هنا تقتضي المنهجية العلمية في الإجابة عن تلك الأسئلة متنا وشرحا؛ متنا يلخص ويضغط ويختصر ظواهر العنف، وشرحا يستفيض ليكتشف سر الإساءات ونماذجها في طبيعة العلاقة بين الشرق والغرب، أو بين ثقافتين وحضارتين التقتا وتشابكتا وتعانقتا وتشاكستا.
ومن المعروف أن الحضارة المادية الغربية قد استفادت من التراث الثقافي والعلمي للحضارة الإسلامية وخاصة في الأندلس. وقد حاولت الحضارة المادية الغربية -وهي في أوْج قوتها- أن تهضم وتذيب خصائص ومقومات الحضارة الإسلامية ولكنها لم تستطع، رغم أن الأخرى كانت قد فقدت دولتها وأبوّتها السياسية وتعيش حالة من التراجع والاستلاب، إلا أنها -ورغم جراحها- تأبّت واستعصت واحتفظت بخصائصها ورفضت الذوبان.
وربما كان شرح العلاقة أكبر من أن تستوعبه مقالة صحفية أو حتى كتاب واحد، لأنها محصلة تراكمية ورصيد قرون من الاشتباكات والصراع الطويل.
ولقد لاحظ الباحثون في أوروبا وأميركا وكثير من البلدان الأخرى أن لدى مراكز القرار في الغرب منظومة إعلامية ترتبط في أغلبها بالهوى السياسي، وتتعمد تشويه الآخر المسلم وتحط من قدره، وتحاول إشاعة الخوف منه وتلصق به أبشع الاتهامات، ولا تكف عن الهجوم عليه واستعداء الشعوب ضده.
وكما يتضاعف خوف المسلمين على دينهم بعد كل هجوم، يكون كذلك خوف الغرب منه كلما ظهرت قدرة المسلم على التمسك به وإصراره على تطبيقه، والالتزام به والتضحية من أجله، وذلك إضافة إلى معرفة دوائر البحث هناك بقدرة الإسلام ذاته بوصفه منهجا على أن يفرض نفسه بديلا حضاريا ومنافسا اقتصاديا، يتحدى بخطورة وجسارة إذا توفرت له البيئة الحاضنة.
وفي أستراليا هيئات مسؤولة عن حماية المجتمع من الحرائق كونت خبرتها عن طريق العلم والتجربة، وهذه الجهات لها دور كبير في حماية أستراليا من الحرائق، ومن مهامها أنها عندما تعلم باحتمال ارتفاع في درجات الحرارة وهبوب العواصف تصدر تعليماتها للناس بالامتناع عن إشعال النيران، لأنها قد تتسبب في حرائق ربما تكلف المجتمع الكثير من الضحايا في الأرواح والممتلكات، ومن ثم فلا يجوز لعابث متهور أن يسخر من تلك التوجيهات ويعمد إلى إشعال النار وسط العواصف.
فالمجتمع هنا له دور كبير في منع هذا العابث والضرب على يديه حتى لا يؤذي المجتمع كله بانحرافه السلوكي.
ومن المعروف للباحثين أن العقائد بصورة عامة تشكل في الوجدان لدى أصحابها مناطق شديدة الحساسية وسريعة الاشتعال، لأنها مغلفة بالعواطف، والعواطف كما يقولون قواصف وعواصف وأحيانا نواسف. ومن ثم فالعقائد -بهذا التوصيف- تشكل محميات طبيعية لا يجوز الاقتراب منها أو اقتحامها على أصحابها وإلا حدث الحريق.
وظهور الجرم المسيء بشقيْه -والذي شكل زلزالا في فرنسا- له دلالة خاصة لا تخطئها عين الباحث. فشقه الأول كان عدوانا إرهابيا صارخا على صحيفة أمعنت في تعنتها وأصرت على التعدي والتجاوز والعدوان على عقيدة 1.6 مليار مسلم في العالم، وفي أكثر من مرة رغم كل الاحتجاجات.
والشق الثاني يتعلق بقول "كوليبالي" -الذي قام باحتجاز الرهائن- إنه فعل ذلك انتقاما لما تقوم به إسرائيل تجاه الفلسطينيين، ولما قامت به فرنسا في بلده الأصلي "مالي".
ومن الطبيعي أن يكون من حق فرنسا وطنا وحكومة أن تحمي نفسها من خطر الإرهاب الذي أشعل غضب كل الشعوب بهذا العدوان على صحيفة "شارلي إيبدو".
أما الصحيفة -التي حظيت بتأييد العالم بعد الحادث- فقد تعودت من قبلُ تجاهلَ كل العواصف وكل الغضب، ففعلتها في السبعينيات حين سخرت من الرئيس الفرنسي شارل ديغول بعد موته، فهب المجتمع والدولة معترضيْن، فطردت الصحفي صاحب السخرية من عمله.
وعرفت الصحيفة أن لحريتها سقفا محددا وأغلقت أبوابها وبيعت بثمن بخس، ثم عادت للظهور مرة أخرى في ثوب جديد، وكررت التجربة الخاطئة مرة ثانية فتعرضت لنجل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي وعرّضت بأصوله اليهودية، فاتهِمت بمعاداة السامية واعتذرت وطردت الصحفي الذي فعل ذلك، وأدركت مرة أخرى أن لحريتها سقفا محددا.
غير أنها تجاهلت ذلك كله وأوغلت في التعدي والتجاوز والعدوان على النبي محمد صلى الله عليه وسلم ولم تعبأ بغضب 1.6 مليار مسلم، ونشرت رسومها المسيئة أكثر من مرة بحجة حرية التعبير، ولجأ بعض الفرنسيين إلى القضاء ليمنع الصحيفة من استفزاز المسلمين وإثارة الكراهية، ولكن القضاء انتصر للصحيفة بذات الحجة (حرية التعبير)، وكأن الحوادث السابقة المتعلقة بشارل ديغول وابن ساركوزي لم تكن من قبيل حرية التعبير!
هنا تبدو الانتقائية في التعامل مع المبدأ الواحد بازدواجية المعايير مثيرة للسخرية ومستفزة للمشاعر، ومستهينة بعقل القارئ وذكائه، حين تصب الزيت على النار في وقت ترتفع فيه حرارة الغضب وتشتد فيه العواصف بحروب عبثية تأكل الأخضر واليابس، وتكلف الدول مئات الآلاف من القتلى والضحايا في كل بقاع الأرض وفي المنطقة العربية بالذات.
وفي مواجهة ظاهرة العنف والإرهاب التي وقعت في فرنسا، اختلطت دماء الضحايا المسلمين الفرنسيين بدماء غيرهم من الفرنسيين ولم يفرق الإرهاب بين مسلم وغير مسلم، ومع ذلك تتكرر الأخطاء ويتم التركيز على ديانة الجاني بينما الضحية لا يتحدث أحد عن دينه.
في جرائم باريس، قتل الشرطي أحمد مرابط وهو مسلم مخلص لدينه ولقيم فرنسا ولم يشفع له دينه، وقد كان القاتل والمقتول مسلميْن، فلماذا يتم التركيز على ديانة الجاني بينما يُغض الطرف عن دين الضحية؟ تلك ازدواجية أخرى في المعايير تمارس عن إصرار وقصد.
وهناك ضحية مسلم آخر داخل الصحيفة هو الجزائري مصطفى أوراد، ثم كان هناك العامل المسلم "لسانا باتيلي" في المتجر اليهودي الذي قام بإخفاء ستة من الزبائن اليهود في ثلاجة لحوم، وحماهم من القتل وحفظ حياتهم، وتواصل مع الشرطة عبر هاتفه المحمول، وكان دوره مهما في عملية اقتحام المتجر، وبسبب إنسانيته وشجاعته لم يُمسّ هؤلاء اليهود بأي أذى. والمفارقة أنه من مالي نفس البلد الذي يتحدر منه الخاطف "كوليبالي".
لقد قال "لسانا" عن نفسه إنه مسلم مؤمن ويصلي، والهجوم يؤلمه جدا وعلاقته باليهود جيدة جدا، وهو حزين على مقتل زميله اليهودي "يوهن كوهن"؟
والسؤال الملحّ هو: لماذا يتم التركيز على ديانة الجاني ولا يشار إلى ديانة الضحايا؟ أليست هذه ازدواجية في المعايير تـُشعر المسلم بأنه مستهدف لمجرد ديانته ولأنه مسلم؟
ويستمر الإصرار على المعالجة الخاطئة في إطار ثلاثة مسارات كلها خطأ، وتؤدي إلى مزيد من التعاطف مع الجناة، ومزيد من إثارة الكراهية وإشعال الحريق.
- المسار الأول: هو إصرار الصحيفة على إصدار ثلاثة ملايين نسخة من الصور المسيئة في تحدٍّ صارخ لمشاعر المسلمين في العالم، الأمر الذي يوّلد نوعا من التعاطف والتماس العذر للجناة في جنايتهم لدى كثير من شرائح الشباب الذين هم بعيدون عن الاستقطاب، كما يولد خيبة الأمل لدى كل من يتطلعون إلى السلام والأمن وحماية مكتسبات التعددية الحضارية والثقافية، والتعايش السلمي والعلاقات الإنسانية المحترمة بين شتى الأجناس.
- المسار الثاني: هو الحشد الإعلامي الخاضع والموجه بالهوى السياسي، حيث يحشد للإدانة والمظاهرات، ويستحضر من ذاكرته كل ما يثير الكراهية ويزيد حجم الغضب في نفوس شعوب الغرب، لتبرير هجوم اليمين المتعصب ومراكز القرار على المسلمين وعلى الإسلام أرضا وشعوبا ودينا وهوية.
وتـُلاحَظ هنا ازدواجية المعايير بين مواطن مسلم -لا ذنب له- تتعرض مساجده لأكثر من 50 حالة اعتداء، بينما تـُستدعَى قوات الجيش لحماية المعابد والمدارس اليهودية!!!
- المسار الثالث: هو الحشد الأمني عن طريق الملاحقات وسن ترسانة جديدة من القوانين تعمل على تقوية الأقوى وهو أجهزة الأمن والاستخبارات، وإضعاف الأضعف وهو المواطن في مواجهة الدولة.
المسارات الثلاثة تصب كلها -وبزخم شديد- في صالح الإرهاب وتساعده ليتحول من ظاهرة إلى أيديولوجية، وتحول فعله وممارسته من جريمة إرهابية سيئة السمعة إلى متعة وشهرة وشهوة عند ممارسيه، لأنه -في نظرهم- يمكنهم من الثأر والانتقام من عدو يستبيح دينهم وأرضهم، كما ينقل الإرهاب من بيئة محدودة إلى وباء عابر للقارات يضرب في كل مكان، وتكون النتيجة أن يتحول الإرهاب إلى وطن يحتضن ويُصَنِّعُ ويُصدّر.
الغريب أنه بعد عشرات السنين من المعاناة نتيجة التجربة؛ يكرر البعض الآن نفس الخطأ!! فهل نحن نريد القضاء على الإرهاب أم المساعدة في تجميعه ليتكاثر وينمو؟
بقي السؤال الثاني: كيف؟ كيف نواجه ونوجّه؟ كيف نعرض ما لدينا؟ كيف نتمكن من القدرة على نقل الخصم من مربع التعصب والكراهية إلى مربع الحياد والمساندة والدعم؟ وكيف نفتح بصره وبصيرته على ما في هذا الدين من حقائق وعدل وحرية وكرامة ورحمة للعالمين؟
قيم كثيرة لدينا يمكن أن يستفيد منها الآخرون، لكنها مجففة ومعلبة وتحتاج واقعا تعيش فيه، وأن تحيا لدينا أولا حتى يروها هم رأي العين كالعُصارة الحية في الشجرة الخضراء.
وكل كلام دون ذلك سيظل كلاما لا واقع له ولا دليل عليه إلا في العقل فقط، حيث تعيش الأفكار والتصورات والرؤى، والقيم العظيمة تظل مجرد أفكار في الذهن ما لم يكن لها تطبيق عملي في واقع الناس وحياتهم.
وهذا هو التحدي الكبير أمام كل المسلمين وخاصة من في مجتمعات المهجر: أن يعيش الإسلام فيهم، وأن يحيا في واقعهم، وألا يكتفوا بمجرد ادعاء الانتماء إليه.
المفتي العام لقارة أستراليا
إبراهيم أبو محمد
زلزال فرنسا وإعصار الإساءات 1214