لا معنى لقرار إخلاء سبيل نجلي حسني مبارك، قبل ساعات من ذكرى ثورة مجيدة، قامت ضدهم، سوى أن ورثة مبارك الذين يحكمون الآن مطمئنون تماماً، وواثقون من أن الضمير الثوري في غيبوبة، لن ينعشه منها كل هذه الصفاقة في التحدّي والإمعان في الاستهانة بقدرة المصريين على الدفاع عن ثورتهم المنهوبة.
إن المشهد المصري، الآن، بات صورة طبق الأصل من الأوضاع عشية الخامس والعشرين من يناير/ كانون ثاني 2011، حيث عادت القاهرة إلى سيرتها الأولى، مجرد محطة لعبور الصفقات والمؤامرات الدولية للإجهاز على كل ما ينبض بمقاومة المشروع الصهيوني المتحالف مع معسكر الرجعية والخنوع العربي، القائم على مبدأ وحيد، ملخصه أن يكون حكم مصر من خلال سلطةٍ، لا تطمح بأكثر من أن تكون سمسار مفاوضات وتطبيع، تمد يدها لمن يلوح لها بمعونات مشروطة.
مصر الكنز الاستراتيجي للعدو الصهيوني، مصر الفندق الذي يستضيف مفاوضات قتل مشروع التحرر الفلسطيني، وترتيبات مشاريع التكسب الدولي من الحرب على الإرهاب، عادت بكل وضوح، وعبّرت عن نفسها بكل مفردات قاموس حسني مبارك، أمس، أمام منتدى دافوس، حيث لم تخرج كلمة جنرال الحكم في مصر عن محورين، أولهما: تسويق نفسه جسراً للمشروع الأميركي الدولي للحرب على الإرهاب، وطرفاً مطيعاً يعتمد عليه في تنفيذ كل ما يطلبونه منه، طارحاً نفسه ككيان شديد التماهي مع الأجندة الغربية، حتى أنه يزاوج بين انقلابه، المحمول على ثورته المضادة قبل عام ونصف العام، ومظاهرات "شارلي ايبدو" الفرنسية.
والمحور الثاني هو عرض البضاعة ذاتها التي كان يبيعها حسني مبارك، لقاء الرضا الأميركي والقبول الإسرائيلي ببقائه في الحكم، استثماراً في قضية الشعب الفلسطيني، دفاعاً عن حق المحتل الإسرائيلي في الأمن والحياة فوق جثث الفلسطينيين.
تلك هي تركة مبارك التي يلعب بها كما عبرت عن ذلك في أبريل/ نيسان من العام الماضي، حين حاولت سلطة الانقلاب استغلال الموضوع الفلسطيني، لتثبيت أقدامها "إنها اللعبة السخيفة ذاتها.. محاولة إظهار وجه قومي وعروبي زائف لنظام ولد سفاحاً وابتساراً فوضعوه في حضانة إسرائيلية، ثم جاءوا له بالحليب المجفف من عواصم عربية، اعتبرت مبارك حاكمها الأثير لمصر".
وعلى صعيد الداخل، لا يخفي النظام رغباته في تنفيذ أوامر الرأسمالية التي مولت انقلابه على ثورة يناير، إذ يعلن، صراحة، نيته في إلغاء الدعم على السلع الرئيسية، مع الوضع في الاعتبار ذلك التلازم التاريخي بين مسألتي "الخصخصة والتطبيع"، منذ أنور السادات وحسني مبارك.
إذن، تقول الصورة إن الأسباب التي أدت إلى اندلاع ثورة المصريين في مطلع العام 2011 عادت وتراكمت، على نحو أكثر فداحة، امتهان للكرامة الإنسانية، وغياب للعدل والعدالة الاجتماعية، وقتل للحريات والديمقراطية، فما الذي يجعل النظام مطمئناً لعدم قدرة الجماهير على إزاحته؟
أذكر أنه عشية اندلاع ثورة 2011 أن دار نقاش ساخن في أمسية لمناقشة كتاب للدكتور جلال أمين بين شباب كان قد عقد العزم على الخروج ثائراً صباح اليوم التالي وبطل الأمسية، انتهى إلى ضحكة ساخرة منه مفادها أن لا تتوقعوا ثورة غداً.. وجاء الصباح ليثبت أن الميدان أصدق أنباء من الكتب ومؤلفيها.
واليوم، تبدو محاولات التحبيط والتيئيس والتخويف والإرهاب أشبه بما كان سائداً قبل أربع سنوات، وأكرر ما قلته لصديق سألني عن توقعاتي، وهو أنه لا توجد ثورة تحسب بالورقة والقلم، تمردوا على كل محاولات التحبيط والتيئيس وزرع الفتنة، واخرجوا كما خرجتم أول مرة.. توكلوا على الله، وافتحوا كتاب يناير، وكونوا كالطيور تغدو خماصاً وتعود بطاناً.
العربي الجديد
وائل قنديل
إنهم يحتقرون ثورتكم 1083