يظهر المشهد اليمني اليوم في مأزق خانق لا أحد يستطيع تقدير أبعاده وتداعياته. حيث تعاني كل القوى اليمنية من حالة انسداد ذهني وعقلي وبصري، إلى درجة ألا أحد فيها يستطيع أن يتبين أو يتفهم أو يستوعب أو حتى أن يعلق ليجيب ماذا يجري؟ كيف يجري؟ من المسؤول عما يجري؟
من هنا ينظر اليمنيون بعضهم في وجوه بعض: هل حقاً أن هذه القفزة هي قفزة نحو المجهول؟ أم أن الحكمة اليمانية هي من ستتمخض في النهاية عن إرادة الحل التي تخرج اليمن من المتاهة الراهنة التي ازدادت تعمقاً باستقالة الرئيس وقبله الحكومة؟ المؤسف أنني وعلى اتساع متابعتي لردود أفعال كل القوى التي تتصدر المشهد، لم أجد جماعة أو نخبة مستعدة لتضحية من اجل اليمن، بل لم أرَ ان هناك من يخاف على حاضر ومستقبل هذا البلد أو يخشى من انفراط وحدته وتشظيه الى كيانات لم يكن فيها الشمال شمالاً او الجنوب جنوباً.. والشيء الواضح في المشهد ألا احد يريد أن يجيب بنعم، ولا أحد يريد أن يجيب بلا، فالكل مصدوم والكل يتساءل عن دوافع ومعطيات استقالة هادي بما فيهم اولئك الذين لا يجهلون حقيقة الوضع الخانق، الذي انتهى إليه الرجل وكيف وصل الى تلك القناعة..!
إذ أن مثل هؤلاء وعلى الاخص القريبين من الرئيس هادي طالما ما تحدثوا أو في مبارز القات عن الهفوات الكبيرة للنظام، التي اوصلت البلاد الى حالة الانسداد والضغوط، التي لم يجد امامها الرئيس هادي سوى الهروب الى الامام وتقديم استقالة بعد ان اصم اذنيه عن كل نصح .
من الواضح ان كل من كانوا بجانب الرئيس هادي من مستشارين ومقربين وشخصيات تنسج التحالفات المصلحية والذاتية فشلوا جميعاً في مساعدة الرئيس على تبني روية ناجحة لتحول السياسي رغم علمهم انه لم يكن مطلوباً منه اكثر من تنفيذ المبادرة الخليجية وإيصال البلاد خلال عامين الى انتخابات رئاسية وبرلمانية عامة، إذ انهم وبدلاً من معاونة الرئيس على انجاز ذلك الهدف انشغلوا بهمومهم الشخصية ومطالب احزابهم والمكونات، التي اتوا منها ليتركوا الرجل وحده يدفع ثمن كل المثالب والأخطاء، التي قادة في النهاية الى التضحية بالسلطة، وبالذات وان الرئيس لم يستفد من قول احد الحكماء وهو ينصح حاكماً حينما قال له: إذا ما اردت اختيار بطانة فعليك بمن يغطون عيوبك وليس من تغطي عيوبهم، وبالتالي فإذا ما كان الرئيس قد أخطأ في إدارة الشأن العام فإن من ظلوا يمنحون المشورة قد اخطؤوا أيضاً، إما بصمتهم أو مواقفهم غير الواضحة والصريحة، حيث ظل الكثير منهم يمسك العصا من المنتصف ولسان حاله يقول: فلننتظر لنعلم أين سيستقر الحال بالرئيس..!
ربما لم يدرك مستشارو هادي أن أمر السياسة أكثر تعقيداً من أمر أبيات الشعر التي كانوا يحرصون على الاستشهاد بها في اقوالهم، وان المعطى الفني في ممارسة السياسة على علميتها أعرق مما هو الحال في الشعر، الذي هو فن محض تقريباً في الشعر تقول العرب:
الشعر صعب وطويل سلمه - إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه – زلت به إلى الحضيض قدمه –
هذا ما قالته العرب في الشعر فما عساهم يقولون في السياسة وشئون الحكم في هذا المشهد اليمني المضطرب .
في مشهد هكذا لابد وان الجميع يفقدون ثقلهم، فلا أحد يريد أن يقول كلاماً فصلاً، أو أن يتحمل مسؤولية موقف جاد، خصوصا إذا ما كان المشهد أكثر سرعة وديناميكية وحساسية من تقديرات كل القوى التي لجأت جميعها إلى حالة من الترقب في انتظار مخاض لا تريد ان تكون شريكة فيه.. على اعتبار ان ذلك سيكفيها في لحظة أي حصاد إيجابي أن تقول إنها تركت لصاحب المبادرة أن يتحمل مسؤوليته..
للأسف لقد أصبح خبر استقالة الرئيس فيلما "هيتشكوكيا" مرعباً، بعد أن غابت الدولة كمفهوم وككيان وكمؤسسات وبعد ان اختزلت كل الدولة في شخصية الرئيس المستقيل وفي مصالح جماعات النفوذ، التي تسيطر على الارض مع ان الجميع يعلم تماماً ان استقالة الرئيس لم تكن سوء تحصيل حاصل فقد سقطت الدولة أو أسقطت قبل استقالة الرئيس، أو على الأقل كانت هذه الدولة تلفظ أنفاسها المتبقية في محاولة منها لمقاومة الموت المبرمج الذي أحاق بها منذ عدة اشهر.
لم نكن لنختزل خوفنا عن اليمن في خبر استقالة الرئيس لو كانت الدولة قائمة بكل اجهزتها ولم يكن خبر هذه الاستقالة يحدث كل هذا الارتباك والتخبط لولا ان الاستقالة قد شكلت في حد ذاتها عنوان واسع وضمني وخطير على أن الدولة تنهار وأجهزة الدولة تعاني من اللادولة، وأن مثل هذا الاجراء هو الكفيل بإعادة القطار إلى السكة، وما دون ذلك فالانحراف قد يتجه هذه المرة نحو الهاوية، رغم علم الجميع بان الرئيس لم يستقل إلا بعد أن فاض الكأس ووجد الرئيس نفسه عاجزاً ومكشوفاً سياسياً وشعبياً وامنياً..
قد يقول قائل إن الإعلام يهوّل الأمور، وأصارح كل من يقرأ هذا المقال ، إنه أفضل أن نهوّل الأمور (إن كان هذا أصلا حقيقة) ليستعد الجميع لما هو أخطر، بدل أن ينام الجميع في العسل المغشوش ، ليستيقظوا على جحيم سبق أن حذر منه من يدرك حجم الصراع في اليمن في المرحلة الراهنة وحجم الصراع الاقليمي والدولي القائم حاليا على اليمن وفيه.
على ان الاستهانة بالوضع الذي كان غير مرئي الى قبل عدة ايام وأصبح مرئياً اليوم بوضوح شديد ، سيجعلنا ليس فقط في مواجهة عواصف هوجاء ، بل تسونامي لا حول لنا أمامه حيث انه سيجرف كل شيء في طريقه، من بنى ومن هدّم على السواء. أعتقد أن اليمن فوق الجميع بمن فيهم الرئيس، وأن على الذين يفكرون الان باستقالة بالرئيس أن يفكروا في حماية اليمن أولاً، لأن من السهل تعويض الحكام، لكن فإن من الصعب تعويض الأوطان، فالوطن إذا ما ضاع لن يترك لنا الوقت بعدها حتى لنتأسف عما فعلته أيدينا بمستقبل أبنائنا، الذين لن يجدوا وطناً ينتمون إليه ولن يجدوا من يرحب بهم في اسطنبول او طهران أو دبي أو الدوحة أو باريس لو جنيف أو يمناً يرى النور، بعد قرون من صراع التواجد والوجود..
علي ناجي الرعوي
هل استقال الرئيس..أم الدولة؟ 1736