لم يعد المصير السياسي للرئيس عبد ربه منصور هادي ورئيس الوزراء خالد بحاح غامضا بعد الإهانات العلنية التي لحقت بهما وبلغت حدا غير مسبوق في التاريخ السياسي العربي عدا الحالات التي كان يحلو للرئيس العراقي السابق صدام حسين ممارستها مع خصومه بإذلالهم أمام الملأ وعلى شاشات التلفزيون بدعاوى خيانة الحزب، وسيكون مثيرا للشفقة سعي أي فصيل سياسي لإعادة أحدهما أو كليهما تحت شعارات «حب الوطن» و«المصلحة الوطنية»، لأن ذلك سيؤسس لسابقة شاذة، ولم يحدث مثل هذا الفعل البشع تجاه أي رئيس سابق في تاريخ اليمن عدا حالات معروفة تمت بمبررات مناطقية وعقائدية غطت على صراعات السلطة القاتلة أو مارستها حكومة عربية بحق زعماء اليمن التاريخيين عام 66 برغبة السلطة في صنعاء حينذاك.
كان هادي ضحية خموله في التعامل مع القضايا الكبرى بالجدية التي تستحقها واستعانته بأشخاص لم يصدقوه النصح ولم يمتلكوا شجاعة إبلاغه بما يجب، لا بما يحب، ولن أتمادى في الحديث عن الرئيس هادي ولا ما كان واجبا عليه، فذلك عمل قد انغمس وسيواصل الانغماس فيه الكثيرون من مناصريه ومن خصومه قبل وبعد إسقاطه بصورة تدعو للاستهجان والرفض، وهو الوحيد القادر على استعادة أحداث الأعوام الثلاثة الماضية ومعرفة ما جرى خلالها وكيف تركه الجميع وحيدا يواجه ركام الكارثة داخل معتقله الإجباري، وأحزنتني صورته حين زاره مدير مكتبه السابق أحمد بن مبارك بعد أن أطلقه مختطفوه وبدا فيها هادي شاحبا منهكا، ولا بد أيضا الإشارة إلى مدى القسوة غير المقبولة التي يمارسها «أنصار الله - الحوثيون» تجاهه إلى حد لا يمكن معها الاستماع لأي مبررات، ومن المؤسف أن أحدا من قيادات الأحزاب الذين كانوا يتمنون أن يمنحهم موعدا أو هبة لم يقم بزيارته حتى كتابة هذه الأسطر (مر على احتجاز الرئيس ما يقارب الأسبوعين) وانشغلوا بترتيبات تقسيم السلطة وفي عقد اجتماعات متواصلة ولم يبدوا أكثر من الاحتجاج اللفظي، كما أن الذين كانوا يملأون الفضاءات الافتراضية بأنهم سيقفون سندا له (تتذكرون بالروح بالدم نفديك؟، وفوضناك؟) اختفوا مكتفين بكلمات لا يقرأها الرئيس ولا تؤثر في الموقف على الأرض ولا تحرك ضمير معتقليه.
لثلاث سنوات كتب الكثيرون وبحت الأصوات بالصراخ لتدارك السوء الذي أديرت به الدولة المهترئة أصلا ولم يتوقف العقلاء عن التحذير والتنبيه إلى الإعصار المدمر الذي كان يتشكل في وقت كان المجتمع الدولي وممثله جمال بنعمر يبشرون اليمن بل والعالم بـ«المعجزة» وصدق أغلب البسطاء أنهم سينجون من دفع مستحقات الوهم والوصفة التي باعها الخارج وأصر على أن يتجرعها اليمنيون.. وبينما كان 565 عضوا يملأون قاعات الموفينبيك لعام كامل ويتلهون بالأضواء وصياغة المقررات التي تجاوزت الآلاف كان الحوثيون يعملون لتثبيت مواقعهم غير عابئين بما تردده وسائل الإعلام الرسمية عن «النجاحات الباهرة»، وعندما انفض السامر كان الأمر قد اختلف والمشهد قد تبدل.
ما يدور اليوم بين (أنصار الله - الحوثيون) والحزبيين الذين فرضوا أنفسهم ممثلين وأوصياء على مصير اليمنيين ليس أكثر من استمرار للنهج الذي بدأ فور التوقيع على المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية وأغلب الحاضرين في المشهد الذي يديره جمال بنعمر بعبثية نادرة منذ 3 سنوات ولا يمكن لأكثرهم الزعم بأن عدد أعضاء حزبه يعطيه مشروعية التفاوض لرسم حاضر اليمن ومستقبله، ونعلم أن الواقع - وإن كان مؤقتا - سيرسم خطوطه سلاح الحوثيين كما فعلوا في الماضي القريب وستتم تلبية شروطهم، وهو أمر اعتادت عليه هذه الأحزاب مقابل إبقائها في جسد السلطة أيا كان شكلها ومضمونها، وما يدور في صنعاء ستظهر عاجلا انعكاساته السلبية المدمرة على مستقبل اليمن بشكله الحالي، فها نحن نتابع الذوبان اليومي لارتباط أجزاء البلاد بعقيدة جامعة ولو في حدها الأدنى، والأخطر هو ما يعتمل اليوم في جنوب اليمن، وهو نتيجة حتمية متوقعة لسنوات من المرارة والأخطاء والعناد الذي مورس منذ نهاية حرب صيف 1994 التي مهدت لتنامي المشاعر السلبية عند الجنوبيين تجاه قضية الوحدة اليمنية وتم تجاهل الإجراءات التي كان لها أن تخفف تصاعد الرغبة الانفصالية، وزاد من مخاوفهم التحول الذي طرأ على خطاب (أنصار الله) تجاه قضيتهم بعد أن قدموا وعودا لقيادات الحراك الجنوبي التي كانت تمثل رغبة الشارع قبل أن يتم استبدال أسماء لا ترتبط بالواقع الجنوبي بها، وهو ما منح الأصوات الصاخبة الداعية لفك الارتباط المزيد من الزخم والمساحة لدفع الأمور نحو التأزم والتباعد النفسي والمادي.
حتى هذه اللحظة ما زال (أنصار الله) يستعينون بالقوة لإبراز مرئياتهم للحال الذي يجب أن تكون عليه البلاد، ورغم كل الغموض الذي يكتنف خطابهم الإعلامي تجاه كل القضايا المصيرية فإنهم يغلفونه بمطالب الشراكة التي لم يفصحوا عن معالمها وحدودها سوى الزعم بأنهم محرومون منها، بينما واقع الحال يشير إلى أنهم يحصلون على مبتغاهم بوسائلهم الخاصة، ومع تزايد مزاعمهم بأنهم يريدون شراكة في الأجهزة الرقابية، فإنه يثير الاستغراب لأنهم يمنحون أنفسهم صكوك النزاهة والأمانة ولغيرهم الشكوك وسوء الظن، ويريدون أن يكون تقاسم مواقع السلطات بينهم كفصيل وبين بقية اليمنيين كفريق آخر، وإذا كان هذا هو مفهومهم للشراكة الوطنية فعليهم استيعاب عبر التاريخ الذي يشكون من فصوله وما عانوه خلال دوراته المختلفة.. إن تحول المظلوم إلى ظالم هو تعبير فاضح لعدم فهمهم وعدم استيعابهم لأسباب ما لحق باليمن من كوارث لم تتوقف عن التكرار، وكم أتمنى أن يلتفتوا قليلا إلى ما حدث خلال الأعوام الثلاثة الماضية والتوقف لحظات لمراجعة جادة مع الذات والشروع في إجراء جردة حساب للأسباب التي قادت الشباب للاحتجاج عام 2011 لعلهم يستفيدون من درسها الأهم، وهو أن الاعتداد بالقوة مصدر لفرض الرأي والحصول قسرا على المطالب هما أقصر الطرق، لكنهما أشدهما تدميرا لعرى المجتمع ويصبحا وقودا محفزا لتشكيل مقاومة يتجمع حولها معارضوهم فتعود البلاد إلى تاريخها الدموي المدمر.
لقد تكررت أخطاء «أنصار الله» في أسلوب تعاطيهم مع القضايا الداخلية والخارجية ولا يكفي التحجج بانعدام التجربة في المجالين، لأن الآثار السلبية المترتبة ستلحق ضررا فادحا بالمواطنين وعليهم الابتعاد عن التهديد بالأفعال الثورية وأن يجتهدوا لاستعادة التوازن في خطابهم مع الآخرين وأفعال مسلحيهم الميدانية الفجة، فإذا كان الداخل اليمني يتقبل مجبرا ممارساتهم، فإن الخارج ليس جمعية خيرية وله مصالحه التي يجب التعامل معها بحساسية دون تزمت، ومن هنا فالواجب يستدعي فعلا سريعا يعيد الطمأنينة للداخل وللخارج في آن.
الشرق الأوسط
مصطفى أحمد نعمان
مفهوم الحوثيين للشراكة مصدر قلق 1243